عماد محمد غرلي *
The Kingdom of Sheba between religious presence and historical reality
- Dr. Imad Ghorly
مستخلص
تُعدّ "مملكة سبأ" من أقدم الحضارات اليمنية، إذ يمكن القول إنها تأسست في العام 1950 ق.م.، واتخذت "مأرب" عاصمة لها، وقد اتجه نشاطها لإقامة السدود وإنشاء المزارع وتنظيم الطرق والمواصلات وتأمينها.
امتد نفوذ مملكة سبأ إلى مشارف الشام شمالًا وإلى الخليج العربي شرقًا. وقد ورد ذكرها في الأساطير، والكتب الدينية المقدسة، ولاسيما عندما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم "نبأ سبأ": ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾([1])، وما كان لها من مجدٍ ونعيمٍ وعزةٍ وقوةٍ ومنعةٍ، كما ذكر الله تعالى ما كان من شأنها مع نبي الله سليمان عليه السلام. وتشير المعطيات التاريخية والدينية إلى أن الحضارة في عهد سبأ بلغت القمة، لكنها أخلدت للراحة وحياة الترف، وأهملت واجباتها، وكفرت بأنعام الله، فعاقبها الله بانفجار السدود، ودمر ما أمامها من عمائر ومزارع ومدن وقرى، وكان سببًا في زوال ملكها. وقد تفرقت سبأ في الأرض شمالًا وشرقًا وغربًا، وتأثرت حضرموت بهذه الكارثة وكان ذلك في العام 115م. في المقابل، يلحظ تاريخيًّا أنه في عهد هذه المملكة بدأت الديانة اليهودية في التوسع، وقد اتخذت لها مراكز في البلاد العربية بهدف الدعوة للدين اليهودي.
إن لمملكة سبأ إذًا، وجودًا جغرافيًّا ملحوظًا، وفاعلية حضارية، لذا يعدّ البحث في مكانتها الدينية والأسطورية، وواقع حضورها الفاعل على مسرح الأحداث في التاريخ القديم، من الدراسات الدقيقة، لما فيها من موضوعات شائكة ومثيرة تجمع بين المقدس والتاريخ والموروثات الثقافية والحكايات الشعبية والأسطورة، بعدما أسهم الجانب الديني في تعزيز مكانتها من خلال ما ورد في القرآن الكريم، والتوراة([ii]).
إن المكانة التي وصلت إليها مملكة سبأ في الكتب السماوية، تعود بالدرجة الأولى، إلى الملكة بلقيس التي لا يمكن الفصل ما بين التاريخ والأسطورة عند الحديث عنها. وما شهدته سبأ من ازدهار وتفوق حضاري تجلّى في تنوع حضارتها وغناها العريقة، وجعل منها مسرحًا للعديد من التأثيرات والصراعات، وبؤرة للعديد من الأحداث التاريخية التي ارتقت إلى المنحى الأسطوري.
هذا التداخل بين الدين والأسطورة والحقيقة والتاريخ يدفع البحث إلى إبراز حضارة سبأ ومعالمها، والوقوف على دور ملكتها بلقيس التي شغلت أذهان المفسرين والمؤرخين والباحثين والشعراء والأدباء...، إذ هناك غير تساؤل يطرحه بعض المؤرخين والباحثين حول حقيقة هذه الملكة: فهل مملكة سبأ وملكتها بلقيس، حقيقةٌ واقعةٌ أثبتتها الأدلة والمعطيات والبحوث والتنقيبات والحفريات الأثرية، أم اقتصر وجودها على النصوص المقدسة والأساطير؟ هذا ما يحاول البحث الإجابة عنه.
- معالم وحضارة
تلحظ معلومات تاريخية معنية بالتاريخ القديم، وجود حضارة يمنية راقية، يعود تاريخها على الأقل إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وتقترن هذه المعلومات بذكر سبأ التي ارتبطت بها معظم الرموز التاريخية في اليمن القديم والتي هي بالفعل واسطة العقد في هذا العصر، ويمثل تاريخ دولة سبأ، وحضارة سبأ فيه عمود التاريخ اليمني.
وسبأ عند النسّابة هو أبو حمير وكهلان، ومن هذين الأصلين تسلسلت أنساب أهل اليمن جميعًا. كما أن هجرة أهل اليمن في الأمصار ارتبطت بسبأ، حتى قيل في الأمثال: "تفرقوا أيدي سبأ"، والبلدة الطيبة التي ذكرت في القرآن الكريم هي في الأصل أرض سبأ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور﴾([iii]). ومن أبرز رموز اليمن التاريخية سدّ مأرب الذي يعدّ أكبر عمل هندسي شهدته الجزيرة العربية حتى عدّ من معجزات العالم القديم وعجائبه، ولا تزال اثاره قائمة حتى اليوم([iv]). وقد اقترن ذكر السد بسبأ، وكان تكريمه بالذكر في القرآن، سببًا في ذيوع ذكر المملكة وحاضرتها مأرب.
ودولة سبأ هي أكبر تكوين سياسي في العصر الأول، وما تلك الدول التي تذكر معها سوى تكوينات سياسية كانت تدور في فلكها، ترتبط بها حينًا وتنفصل عنها حينًا آخر، مثل دولة معين وقتبان وحضرموت، أو تندمج فيها لتكون دولة واحدة مثل دولة حمير التي لقب ملوكها بملوك سبأ وذي ريدان وحضر موت ويمنت([v]).
أما أرض سبأ في الأصل فهي منطقة مأرب، وتمتد إلى الجوف شمالًا، ثم ما حاذاها من المرتفعات والهضاب إلى المشرق. وكانت دولة سبأ في فترات امتداد حكمها تضمّ مناطق أخرى، بل كانت تشمل اليمن كله، وعاصمتها مأرب.
وتدلل الخرائب والآثار المنتشرة التي تكتنف قرية مأرب الصغيرة اليوم على الضفة اليسرى من وادي أذنه، على جلال المدينة القديم وكبرها، ويرجح أن التل الذي تقع عليه قرية مأرب اليوم هو مكان قصر سلحين الذي ذكره العلامة الجغرافي الحسن بن أحمد الهمداني (893 – 947م) في كتابه "صفة جزيرة العرب"([vi]) قبل ألف عام، وقد ورد ذكره بالاسم نفسه في النقوش اليمنية القديمة. وقد تحكم موقع مأرب في وادي سبأ بطريق التجارة المعروف بطريق اللبان، وكان اللبان من أحبّ أنواع الطيوب وأغلاها في بلدان الشرق القديم، وحوض البحر المتوسط، وقد تميزت اليمن بإنتاجها أجود أنواع اللبان الذي كان ينمو في الجزء الأوسط من ساحله الجنوبي في بلاد المهرة وظفار، وقد أدى ذلك الطلب المتزايد عليه إلى تطوير تجارة واسعة نشطة، تركزت حول هذه السلعة وامتدت إلى سلع أخرى نادرة عبر طريق التجارة المذكور.
يمتد هذا الطريق بصفة رئيسة من ميناء قنا في مصب وادي ميفعة على بحر العرب إلى غزة في فلسطين على البحر المتوسط، مرورًا بمدينة شبوة ومأرب، ثم يمر بوادي الجوف، ومنه إلى نجران حيث يتفرع إلى فرعين:
- الكلمات المفتاحية: مملكة سبأ؛ التاريخ القديم؛ مأرب؛ جزيرة العرب؛ اليمن
- Keywords: Kingdom of Sheba (saba); Ancient History; Marib; Arabia; Yemen
***
* باحث لبناني - أستاذ دكتور في التاريخ القديم - الجامعة اللبنانية
* Lebanese researcher. Professor of Ancient History - Lebanese University
[1]- سورة النمل: 22
[ii]- ينظر مثلاً: العهد القديم: سفر الملوك الأول 10: 1- 13، وسفر أخبار الأيام الثاني 9: 1 – 12
[iii]- سورة سبإ: 15
[iv]– محسن مشكل فهد الحجاج، سد مأرب في ضوء القرآن الكريم ونقوش العربية الجنوبية، دراسات تاريخية، ع3، بغداد كانون الأول 2012، ص 287.
[v]– حمود محمد جعفر السقاف، ملوك سبأ وذي ريدان وحضر موت ويمنت (تاربخ اليمن من شمر برعش وحتى حسان ملكيكرب حوالي 270م- حوالي 378م)، دار الكتب، صنعاء 2005، ص 12.
[vi]- الهمداني، صفة جزيرة العرب، مراجعة وتحقيق محمد النجدي، مطبعة السعادة بمصر، 1953
مكتبة البحث
* القرآن الكريم
* الكتاب المقدس: العهد القديم
المراجع العربية والمعربة
المراجع الأجنبية
1. أبو محمد الملك (ابن هشام)، كتاب التيجان في ملوك حمير، تحقيق ونشر مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء 1347هـ
2. أبو محمد محمد لسان اليمن الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، الأكليل، ج 2، تحقيق نبيه أمين فارس، دار العودة، بيروت
3. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، منشورات جامعة بغداد 1993، ط. 2، (10 مجلدات)
4. حمود محمد جعفر السقاف، ملوك سبأ وذي ريدان وحضر موت ويمنت (تاربخ اليمن من شمر برعش وحتى حسان ملكيكرب حوالي 270م- حوالي 378م)، دار الكتب، صنعاء 2005
5. عبد العزيز سالم، تاريخ الدولة العربية (تاريخ العرب منذ العصر الجاهلية حتى سقوط الدولة الأموية)، دار النهضة العربية، بيروت 1986
6. فرتزل هومل، تاريخ الممالك العربية الجنوبية القديمة، من كتاب التاريخ العربي القديم، ترجمة فؤاد حسنين علي، القاهرة 1958
7. محسن مشكل فهد الحجاج، سد مأرب في ضوء القرآن الكريم ونقوش العربية الجنوبية، دراسات تاريخية، ع3، بغداد كانون الأول 2012، ص 287.
8. نسيب الخازن، من الساميين إلى العرب، بيروت 1962، ص 185.
9. نشوان الحميري، كتاب شمس العلوم، المحرر عظيم الدين أحمد، ليدن 1961، ص 9.
10. نشوان بن سعيد الحميري، ملوك حمير واقبال اليمن، تحقيق علي بن اسماعيل المؤيد واسماعيل بن احمد الجرافي، دار التنوير، بيروت
11. الهمداني، صفة جزيرة العرب، مراجعة وتحقيق محمد النجدي، مطبعة السعادة بمصر، 1953
12. يوسف محمد عبد الله، أوراق في تاريخ اليمن وآثاره (بحوث ومقالات)، دار الفكر المعاصر، بيروت 1990، ص 227-232.
المراجع الأجنبية
1. Adolf Grohmann, Arabia Volume 3, Issue 1, Part 3
2. AFL Beeston: Studies in the History of Arabia. Vol II, Pre-Islamic Arabia. Proceedings of the 2nd International Symposium on Studies of Arabia 1984
3. Ahmad Fakhry, An Archaeological journey to Yemen, 3vols, Cairo, 1952.
4. Blenkinsopp, Joseph (2009). Judaism, the First Phase: The Place of Ezra and Nehemiah in the Origins of Judaism. Eerdmans.
5. Clifford Edmund Bosworth The Encyclopedia of Islam, Volume 6, Fascicules 107-108 p.550 Brill Archive, 1989 ISBN 9004090827
6. Deborah M. Coulter-Harris The Queen of Sheba: Legend, Literature, and Lore McFarland, 2013 ISBN 0786469692
7. Gurgen Schnut: The Sabaean Irrigation Economy of Marib ,an article in Temen, 3000 years of civilization and Art Arabia Felix ,1986
8. In the Begining was darkness. Than came the light of the Sabaean Civilazation from the Asian side of the red sea Teshale Tibebu The Making of Modern Ethiopia: 1896-1974 p.xvii The Red Sea Press, 1995 ISBN 1569020019
9. INSCRIBED OLD SOUTH ARABIAN STICKS AND PALM-LEAF STALKS: AN INTRODUCTION AND A PALOGRAPHICAL APPROACH Jacques Ryckmans.
10. Moscati, Histoire et Civilistion des peuples sémetiques, Paris, 1954
11. R. A. Nicholson A Literary History of the Arabs p.14 Cosimo, Inc., 2010 ISBN 1616403411
12. Stuart Munro-Hay Ethiopia, the Unknown Land: A Cultural and Historical Guide I.B.Tauris, 2002 ISBN 1860647448
13. Temples of Ancient Ḥaḍramawt. Pisa University Press. 2005. ISBN 8884922119.
الحداثة عدد 195/196 - خريف 2018 - السنة الخامسة والعشرون
ISSN: 2790-1785
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق