منذ فجر التاريخ بدأ الصراع الكياني، لإثبات الذات بأشكاله كافة بين البشر، فأقدم قابيل على قتل أخيه هابيل، حيث تجسدت فكرة السيطرة، توارثتها الشعوب جيلاً بعد جيل وطورتها عبر العصور، وحملت معها ما يجب حمله لتلقينه لشعوب أقل حضارة وأقل تطوراً، مما جعلها تعيش في دوامة الصراع الداخلي حيث تسود ثقافة الغالب وقهر المغلوب مخلفاً وراءه نزوحًا باتجاهات أكثر أمانًا(1).
عندما بدأت المجتمعات تأخذ طابع الاستقرار النسبي، كان اللجوء بعناوينه المختلفة في المراحل التاريخية كافة. فالكثير من المؤرخين ينسب اللجوء إلى العصر الإغريقي عندما كانت الدولة تمنحه لمن ارتكب جريمة ذات معنى، بينما في العصر الروماني، لم تهتم السلطات بهذا الحق، لكنها أشارت إليه بشكل محدود، وقد انتشر اللجوء ذي الطابع الإنساني وعرف بشكل واسع في بداية المسيحية في مطلع القرن الرابع الميلادي عندما بطش الرومان بالناس الذين اعتنقوا المسيحية مما اضطرهم للجوء إلى الكنائس والأديرة. أمام هذه الأوضاع المتسارعة من القتل والتشريد، لجأ الأكليروس المسيحي لإستصدار قانون لحماية اللاجئين إلى الكنيسة، عرف بقانون "اللجوء المسيحي"، وعقب ذلك القانون أصبحت الكنائس والأديرة الملاذ الآمن بعض الشيء للمضطهدين والمشردين، وبخاصة بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية(2)، كما في المسيحية كذلك في الإسلام وبخاصة في بداية الدعوة الإسلامية حيث تعرض النبي محمد (ص) لمضايقات كثيرة من رجالات قريش ونُكل بأنصاره، حيث أوعز إلى بعض المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وقد وصفه الرسول محمد (ص) أنه الملك الصالح وأرسل معهم ابنته وزوجها وابن عمه جعفر الطيار وابن عمته الزبير في مقدمة المهاجرين حتى لا يقال إن محمداً قد «قذف بالمستضعفين من دون ذوي القربى إلى بلاد مجهولة معرضهم للخطر» وقد نزلت الآية الكريمة ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّهِ مِن بَعْد مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾(3).
فاللجوء يعود في جذوره إلى فترات مختلفة عبر التاريخ، وما حملته من حروب وتشريد، إذ أنتجت هذه الحروب مجموعات كبيرة من اللاجئين والمشردين الذين تضطرهم ظروفهم للتفتيش عن مكان آمن. ونشير هنا إلى الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا، وما نجم عنها من تشريد وقتل، حيث انتقل مئات الآلاف من البشر من هنا وهناك للتفتيش عن الأماكن الآمنة علّهم يحظون برعاية الدولة الحاضنة لهم. إن العامل القومي، والعرقي، والديني كان من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك، وقد عرف اللجوء الإقليمي مطلع القرن العشرين وبلغ الذروة في الحربين العالميتين الأولى والثانية وأثناء الحرب الباردة والحروب الإقليمية والحروب الأهلية وغيرها(4).
إن مشكلة اللجوء في العالم مشكلة معقدة تعاني منها الدول الصناعية المتطورة وغيرها من الدول ذات الشأن الاقتصادي، وقد سعت تلك الدول إلى تفادي هذه الآفات الخطيرة، فعملت على دراسة هذه الإشكاليات من نواحيها كافة، وايجاد حلول لها، لكن على الرغم من الجهود الدولية المبذولة من أجل حلول لها أو بالأحرى، التقليل من مفاعيل هذه الأزمات التي يواجهها اللاجئون، وبالتالي فإن أوروبا بالتحديد شكلت وجهة طالبي اللجوء نظرا لما تمثله مجتمعات هذه الدول من تقبل، وإن كان بنسب متفاوتة للوافدين الجدد والانخراط في مجتمعاتهم، وقد عرفت أوروبا أنواعا مختلفة من اللجوء الإقليمي قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وألغيت المنظمة الدولية للاجئين وحلّت محلها مفوضية شؤون اللاجئين في وقت كانت تزداد وتتسع أحجام اللجوء الإقليمي في العالم الثالث، وترمي بثقلها على الدول الأوروبية ولا سيما منها الصناعية.
عرف العالم أول اهتمام رسمي باللاجئين القادمين من دول مختلفة عام 1921 عندما أقدمت عصبة الأمم على إنشاء مفوضية مختصة بشؤون هؤلاء، وقد تمكنت من خلال مفاوضتها مع الدول المعنية من الحصول على وثيقة سفر خاصة بهم، وجاء في طليعة هؤلاء الروس والأرمن الذين تعرضوا لمذابح وتشريد خلال حروب كثيرة متعاقبة طاولتهم، وعلى الرغم من الاهتمام الأممي بمشكلة اللاجئين، إلا أنه لم تظهر أية اهتمامات ومعالجة لأوضاعهم وبقوا على ما هم عليه حتى العام 1933، وقد تمكنت الدول المنضوية في عصبة الأمم خلال هذه العام من التوصل إلى إتفاقية خاصة، بهؤلاء أطلق عليها إتفاقية جنيف(5).
***
* أستاذ في الجامعة اللبنانية
(1) فيليب حتي: تاريخ لبنان منذ أقدم العصور التاريخية حتى عصرنا الحاضر، ترجمة أنيس فريحة، مراجعة د. نقولا زيادة، دار الثقافة. بيروت، ص 82.
(2) استمر الاضطهاد من القرن الأول حتى القرن الرابع عندما صدر مرسوم الإمبراطور الروماني قسطنطين المسمى مرسوم ميلانو عام 313م. وقد اعتنق هو المسيحية. للمزيد ينظر:
Religion in the Empire willey Black well ,by James B.Rives. publishing 2007. oxford. p.169.
(3) القرآن الكريم، سورة النمل، الآية 41
(4) محمد حبيب سعود: اللجوء الإقليمي دراسة في وضع القوانين الدولية. مجلة آداب المستنصرية بغداد 1978، ص 509.
(5) تمكن د. نافستان وهو شخصية فذة لها حضورها، من تزويد اللاجئين بوثيقة سفر خاصة. أنظر: سعود: م.س.، ص 405
(...)
مجلة الحداثة - ربيع 2017 - مجلد 24 - عدد 183/ 184