1
في مكان ما من شارع طلعت حرب في القاهرة من العام 2018 التقينا. الصدف آنذاك كانت في المرصاد. كان اللقاء الأول جاذبًا للتواصل. تكررت اللقاءات حتى اعتقد البعض من كثرة لقاءاتنا معًا، أننا من عائلة واحدة.
هي الحذرة البسيطة في سلوكها وتصرفاتها، كانت شديدة التواضع، كما أنها في لباسها وأناقتها وتصرفاتها، تبدو وكأنها من الطبقات الأرستقراطية الأجنبية. كانت مثالًا إنسانيًّا يحتذى.
مع مرور الزمن القصير، نمت صداقة وثقة نموذجية، اكتشفت فيها طاقات كامنة دون حدود، وبقدر ما كانت منفتحة، إلّا أنها كانت تقليدية وحذرة في علاقاتها مع الآخرين. في حذرها كنت أراها وكأنها تنتظر شيئًا ما سيأتي بخبر، لم أعرف مصدره أو مقصده. طموحاتها الكبيرة كانت بحجم المستحيل. تريد أن تعوّض عمّا فاتها ولم تفعله، وهي التي كانت تفتش عن إنسان يشاركها ويجاريها، لتحقيق الطموحات المعلومة والمجهولة والخفية من حياتها.
رغم هذه الصفات المميزة التي تتمتع بها، إلا أنها كانت مشتتة ذهنيًّا، مشاريع متعددة تحملها وتريد أن تحققها في وقت واحد.
خياراتها المتنوعة، تشعرك أنه ليس من مشروع واحد لديها. ليس من بوصلة محددة يمكن أن تسلكها لتحقيق ما تبتغيه، وكأنها تفتش عن شيء أضاعته. وقد يكون هذا الضياع لازمها منذ وفاة زوجها. كانت قدريّة أكثر مما يجب، وكانت في تصرفاتها غير مبالية بصحتها. تؤمن بالمجهول: "كيف ما تيجي تيجي" كما نقول بالعامية اللبنانية.
كل مشكلة كانت تعترضها كانت تقول: "الحمد لله"، و"الله يستر من الآتي". قد يكون حادث وفاة زوجها المبكر، قد زرع في ذاكرتها الكثير من الرواسب والمؤثرات القدرية السلبية، أيضًا الحادث الذي تعرضت له، وأوصلها إلى الاحتجاز من قبل أجهزة الأمن لمدة ثلاثة أيام. كانت هذا الصدمة الثانية التي راكمت هواجسها ومخاوفها وزاد من قلقها. كان الاحتجاز بسبب مشاركتها في مظاهرة دفاعًا عن أناس طُردوا من بيوتهم. وإن كانت بعد خروجها من الاحتجاز، اكتشفت رواية ثانية عن الموضوع، وإن ما حصل، كان "توريطة" غبية لها ولغيرها.
هاتان الحادثتان أسهمتا في دفعها لإعادة النظر في خياراتها، وطريقة نظرتها للأمور. ورغمَ ذلك، وكي تتجاوز ما هي فيه، كــما ظننت، كان لي أن أسهمت، بعد الحادث الثاني، أن عرّفتها على قيادات من تيارات سياسية ووطنية متنوعة، تم الحوار بينها وبين بعضهم.
سألتني مرة ونحن في خضم هذه الحوارات: ما خياري إذا كنت أنا شخصيًّا أريد الانتماء إلى حزب معين من هذه الأحزاب؟
أجبت: إن الخيار لك، وليس لي، وعليك أن تختاري، فهذا خيار ذاتي وشخصي.
كان حوارنا هذا خلال وجودنا في أحد المباني لأحد الأحزاب الذين تعرّفت وحاورت هي بعض القيادات منهم. لقد بادر هذا القيادي بجلب طلب انتساب لها لتعبئته، طالبًا منها الانتساب للحزب الذي نحن متواجدين في مبنى له. وهكذا كان الخيار الذي لم تعترض عليه.
بعد حصول ذلك، طلبت منها الذهاب إلى الحزب الذي استقالت منه، وتقديم استقالتها. وهكذا كان.
سألتها بعد ذلك: هل أنت مقتنعة بما قمت به؟ أجابت بالإيجاب.
ما يميز خيارها، هو وضوح الرؤية الاجتماعية الاصلاحية لهذا الحزب، الرؤية المتجذرة لنشاطاته الاجتماعية، ومواقفه السياسية المؤثرة في الواقع المصري المتحرك والمتنوع، خاصةَ أن الحزب الذي انتمت إليه هو حزب تاريخي، عرف بمواقفه، ورؤيته للتغيير بأدوات وروافع اجتماعية سياسية إصلاحية. وهو تيار يتكيّف ليغير، وليس ليستسلم أمام التحديات.
هي متنوعة ومتعددة. بهذا الخيار بدأت التحدي. وبهذا الخيار ارتسمت في ذاكرتها صورة إيجابية للتيار السياسي الذي انتمت إليه. أصبحت بعد انتمائها لهذا التيار، أكثر تفاؤلا، وأكثر ثقة بالنفس. لكن الأحداث كانت تلاحقها؛ ففي خضم هذه التحولات، عرفت وعائلتها حادثًا ترك تأثيره القوي على مسار حياتها وحياة عائلتها؛ لقد تعرض شقيقها لجلطة قلبية. كان هذا الحادث هو الثالث والأكثر ايلامًا حيث وجدتها تقول: "إن هذا الحادث هو امتحان لي ولعائلتي".
تشكر الله أنها تجاوزته بنجاة أخيها من هذا الامتحان الصعب.
قالت في بداية تعارفنا: إن القدر هو الذي جمعنا معا.
من هذه المواقف القدرية، أخذت مواقفنا تتجذر، وأخذت صداقتنا تنمو وتطور. لكن بعد انتمائها الجديد لهذا الحزب، بدأت ثقتها بنفسها تزداد. كان كل منّا يتحدث عن أحلامه وتطلعاته. كانت أفكارنا في كل لقاء، تتقارب، كذا نظرتنا للحياة التي نعيشها، وللشأن الاجتماعي، والهموم الثقافية والسياسية السائدة.
شعرت بتحول جديد في حياتها؛ أصبح لديها جناحان. بهما تعتقد أنها ستحقق ذاتها، وما حلمت به:
أولًا: انتماؤها إلى تيار سياسي اصلاحي، يلبي أحلامًا حملتها.
الثاني: حلمها بتأسيس منتدى ثقافي عربي.
من هذه الضفة إلى تلك، سيتحول ما كانت تحلم به إلى واقع. كان الحلم الثاني حلمًا مشتركًا مصريًّا لبنانيًّا. كان هذا رغم ابتعاد المكان بين بيروت والقاهرة، إلا أن الاقتراب الفكري بيننا، استمر، واستمر بطرق منوّعة؛ من خلال التواصل التلفوني الذي لم ينقطع يومًا، ومن خلال الزيارات الدائمة إلى القاهرة حيث النقاشات والحوارات تتكثّف والمقاربة تزداد.
تحدثت معها عن تجربتي الثقافية في بيروت. وسألت: لماذا لا نعمم هذه التجربة؟
سرعان ما اتفقنا على انشاء مؤسسة ثقافية عربية جامعة، يكون مركزها في مصر. مؤسسة للحوار والتعاون ببن المثقفين العرب.
منذ تلك اللحظة، بدأنا سويًّا لتنفيذ الفكرة، وتحويلها إلى واقع.
بدأنا بالتواصل واللقاءات مع من نعرفهم من مثقفين، فعرفتها على العشرات منهم من مصر ولبنان، وفي بلاد عربية أخرى. بدأت لقاءاتنا للتعريف بالمشروع الذي اتفقنا بعد اللقاءات مع العشرات من المثقفين، بتسميته: "منتدى للحوار الثقافي العربي".
لاقى المشروع استجابة من العديد من المثقفين، ووجدوا فيه أنه يلبي تطلعاتهم في تعزيز الحوار الثقافي العربي.
2
بعد نضوج فكرة تأسيس المنتدى، بدأنا في حواراتنا، نتناول الأمور اللاهوتية، وكيف هي نظرة كل منّا لموروثات الماضي؟ كان هذا الحوار من الأسباب التي كوّنت بعض الالتباسات التي ميّزت نظرة كل منّا لكيفية معالجة أمور الحاضر.
تأكد لي ما كنت تأكدت منه، من أنها قدرية، ومنشدة لتقاليد وموروثات الماضي. قد يكون هذا السبب هو الجاذب لها قبل أن أعرفها لانتمائها لذاك الحزب الذي كانت تعتقد أنها عبره ستحقق حلمها.
ذلك الحزب كانت ترى قيادته الناصرية، امكانية معالجة أمور الحاضر بعقلية وأساليب الماضي، أي بأساليب المرحلة الممتدة من العام 1952 حتى 1970. حتى أن هذا الحزب، الذي استقالت منه لاحقًا، دمج بين مرحلتين منفصلتين تمامًا عن بعضهما البعض. وأقصد المرحلة الناصرية والمرحلة الساداتية.
لم يصر للتمييز بين مرحلة مثّلها جمال عبد الناصر، وكان للشعب المصري مشروعه الطموح، وقد حقق قائد هذا المشروع أحلامهم في التحرر من الاستعمار والاقطاع ومن التبعية، إذ رسم ناصر صورة لبناء الذات المعتمدة على نفسها، والواثقة بقدراتها الذاتية، وأصبحت مصر في عصره من الدول المتقدمة على جميع الصعد، بينما بعد وفاة ناصر، ووصول السادات للحكم، كان هناك مشروع آخر؛ مشروع منفصل تمامًا عمّا سبقه. لقد أعيد الاستعمار المقنّع ليتحكّم في مصير المجتمع المصري.
كان لا بدّ من التمييز ببن مشروعين، وبين نظامين، وبين طريقين.
كنت أرى أن من يريدون أن يهتموا بالشأن العام، أن يراجعوا المرحلة الممتدة منذ الخمسينيات حتى بداية السبعينيات، بسلبياتها وايجابياتها، وإلى ضرورة استخلاص العبر التي أدت إلى ما وصلنا إليه اليوم.
إن من يبنون إرثًا ثقافيًّا للمستقبل، عليهم أن يجيبوا على هذا: أين كان موقعنا كعرب في الفترة الناصرية، في سلم العلاقات الدولية؟ وأين أصبحنا اليوم؟
إن كانت الإجابة ليست سهلة، إلا أنه ليس بالمستحيل أيضًا، إذ علينا رسم الخرائط السياسية والاجتماعية والعلمية والفنية للتجاوز، وللإجابة على تحديات الحاضر والمستقبل.
من هنا يمكننا اكتشاف الروافع التي يمكن أن تستند إليها مجتمعاتنا لتحقيق نهضتها.
إن ما طمحت إليه هي وأنا، هو نتاج خلاصة حوار وتفاعل عقول أجيال، كان لكل منها، دورها في معركة البناء وتحقيق الذات. وإن كانت الحاجات الفكرية والاجتماعية والسياسية لعصرنا مختلفة جذريًّا عمّا كانت عليه في زمن الأمس، وهذا الاختلاف هو من لم يلتفت إليه البعض ممن يعدّون أنفسهم أنهم يخططون للمستقبل.
في الدعوة إلى إنشاء مؤسسة ثقافية، كان على رواد هذا المسعى، أن يتحرروا من كل أثقال الموروثات الماضوية من أي جهة أتت. خاصة في ما يتعلق بضرورة أن يحمل المشروع في مادته الأولى: "فصل الدين عن السياسة".
إن الماضي بحسناته ومساوئه، أصبح تاريخًا لمن وجدوا فيه تاريخًا منفصلًا عنّا، وعن همومنا ومشاكلنا، ونظرتنا للحياة. وإن كان علينا أن نراجعه لنستفيد منه.
3
في بدء معرفتي بها، وحتى العام 2020، كان الحوار حوارًا بين جيلين متباعدين في العمر، ومتقاربين في تشخيص الهموم وكيفية معالجتها. لكن كان يبرز بين الفينة والأخرى بعض التباين لكيفية نظرتنا إلى الماضي. ورغمًا عن هذا التباين الذي كنّا نتجاوزه بمزيد من النقاش، كانت المقاربة تزداد حينما كنّا نتجاهل أمور الماضي، ولا سيما منها الأمور الدينية والأنا الخاصة بكل عقيدة. كنت أرى أن النظرة الجامدة التي تراها كل أيديولوجيا دينيّة لنفسها، الهدف منها تأكيد الأحقية الإلهية التي تميزها عن العقيدة الأخرى. ولتأكيد ما هي عليه في سلوكياتها اتجاه الآخر، والقول إنها تمتلك الحقيقة الإلهية المطلقة في علاقاتها خاصة مع المنتمين لخيارها الأيديولوجي الديني، ومن ثم لشدّ عصبويتها، وتبرير هيمنتها الدينية واعطاء شرعية تبرر بها تمايزها عن غيرها.
على الرغم من ذلك، لم أكن بوارد النقاش والجدال بموضوعات أعتقد أنه على الآخرين إعادة النظر بممارساتهم لها، والوقوف عند معطياتها. ورغمًا عن الفوارق في النظرة بيننا لهذا الماضي، إلا أن ما كنت أشعر به أن ما بيننا أصبح أقوى من كل خلاف؛ كانت الايجابيات تتجذّر وتتعزز، بحيث أصبحت وجهي أينما أكون، وأصبحت وجهها أينما تكون. كانت مرآتي ووجهي، وكنت مرآتها ووجهها من حيث تطلعاتنا التي توحدت في مشروع ثقافي مشترك، نسعى إليه ونعمل على تحقيقه.
كان الحوار بيننا هو حوار بين جيلين معاصرين، لكل منهما أهدافه المتصلة مع الآخر. وإن كان لكل منّا نظرته واجتهاداته المتباينة حينًا حول قضايا الحاضر والمستقبل. كان هذان الجيلان (أنا وهي) يتحاوران من مكانين قريبين، متفاعلين في اصرارهما على رسم صورة المستقبل، وفي مقاربة الرؤية والتطلعات والأهداف أيضًا، في القلق على ما نحن فيه.
من دون أن أدري، وإن كان بعفوية وبراءة، كنت أسأل عن الصدفة ومغزاها التي جمعتنا وبالذات في هذا المكان؟ ورغمًا عن كل الملاحظات، فإن المكان الأول الذي التقينا به يبقى برمزيته، عاملًا من العوامل المكوّنة للثقة بين بعضنا. لن أنسى أنني أتردد عليه منذ ما يزيد عن الربع قرن. وكنت أرى في زياراتي لهذا المكان ولغيره من الأمكنة المماثلة، كم كانت أحلامي وتطلعاتي تتجدد مجسّدة في رمزية وجوهر ما تحمله هذه الأمكنة من خيارات وتطلعات سياسية كنت أحملها، وكنت مؤمنًا بها.
تجسدت المقاربة بيننا في الاتفاق على أن نعمل مع آخرين من أجل تأسيس مشروع ثقافي مشترك، وتكمن أهمية هذا المشروع أنه من بنات أفكار أم مصرية، وأب لبناني. إنه يعبّر عن عمق العلاقات الموجودة بين لبنان ومصر. إنه يحمل في جيناته إرثًا من التفاعل الفينيقي القرطاجي الرافديني السومري العربي، الممتد عبر البلدان المغاربية إلى جوهر الحضارة الأوروبية القديمة. تمامًا كما هي الصورة التي جسدتها حركة التفاعل التي عرفتها مصر في علاقاتها مع اليونان، وبالتالي مع الجسد الأوروبي، حيث الإسكندرية كانت درّة الحضارتين الهيلنية الرومانية. ولم تكن مدرسة الحقوق الرومانية في بيروت وقرطاج الشقيقتين التاريخيتين، شاهدة على هذا التفاعل والتزاوج. إن الإسكندرية وبيروت وقرطاج الشهود على عمق هذا التراث التاريخي الممتد ولا يزال ممتدًا في العلاقات اللبنانية الفينيقية المصرية حيث يقول لويس عوض: إن مصر وبعد حكم الأسرة الفرعونية السادسة عشرة، حكمتها ست أسر فينيقية. ونرى في ما ورد، جوهر التكوين والمقاربة البشرية المتنوعة الجينات والثقافات، سواء في أساليب الحياة والقدرة على الصبر، أم في التحمل ومواجهة التحديات.
إن أهمية المشروع الثقافي، أنه أتى من مكانين أبعدتهما الجغرافية عبر خنجر ما يسمّى "إسرائيل" ومصالح النظام الرأسمالي، وقربتهما الهموم على تنوعها ودلالاتها.
هكذا كان انطباعي عندما تعرفت عليها، واتفقنا على المساهمة بتأسيس مشروع مشترك يجمع الكفاءات العربية، ويكون دافعًا لتعاون عربي تحتضنه أجيال ممتدة بطول وعرض مساحات الجغرافية العربية. هذا المشروع الذي سعت إلى تحقيقه أجيال من المثقفين، ولم تنجزه أو تحققه. والآن، ويا للصدفة أيضًا، إن لقائي بها كان في المكان نفسه الذي أتردد عليه منذ ربع قرن. لذا هل كان اللقاء معها صدفة، أم ما جمعنا هو "القدر"؟
4
اكتشفتها أو اكتشفتني. سيان هذا أو ذاك. رأيت أنها دارسة للتاريخ المصري القديم والحديث. هذا التاريخ الملمة بتفاصيله الدقيقة. كما أنها عالمة آثار، لها ابداعات في رسم صورة ذلك الزمن (التاريخ) في مراحله وتحولاته المختلفة، خاصة الدينيّة منه. تشعرك حين الحديث معها، وكأنها عاشت مع القديسين ورافقتهم، وعرفت أسرارهم وتعاليمهم، وحكاياهم وطرق عيشهم، وصلاتهم مع آلهتهم، وكيفية نشوء تقاليدهم التي أصبحت جزءًا من تقاليد الشعب المصري عبر الزمن.
تعمل مرشدة سياحيّة، وهي الحافظة لآثار مصر وتاريخها. هي الابنة المصريّة المجتهدة الملمة بهذا التاريخ وحضارته؛ فالشخصيات التي حكمت مصر تاريخيًّا مرسومة في ذاكرتها، كأنها عاشت وعايشت، بل عايشت ناس ذاك الزمن، ورافقت مسار وتحولات حياتهم المختلفة. تعرفت على من حكموا، سواء منهم من المصريين أم من الرومان والفرس، وغير ذلك من جنسيات عرفها تاريخ مصر عبر العصور.
تحدثك عن شواهد هذا التاريخ الأثريّة وعن شخصياته وعن ثقافته. حديثها يندمج فيه علم التاريخ بصوره الملوّنة بوعي وطموحات وخوف ناسه، وبتخيلات إنسانه المعاصر عنه. وبعبق المؤثرات الأسطورية، وجماليات حكاياه التي دوّنت في التراث الشعبي.
إن ما يغري السامع على الانصات لما تسرده عن هذا التاريخ، هو براعتها في رسم صورته وحياة ناسه. هي من سلالة مصرية مدينية عريقة. سلالة لا تزال تحافظ على الموروثات الثقافية بعمقها الروحي المتأصل في الوجدان المصري على تنوعه.
من يستمع إليها وهي تروي حيثيات فهمها لهذا التاريخ، يستطيع بسهولة أن يتعرف على عيّنة ثقافيّة مصريّة أصيلة، عيّنة متجذّرة في الإرث الحضاري المصري، عيّنة حيّة تستحضر هذا التاريخ وترويه بعقليّة فيها من الحنو لهذا التراث ولموروثاته المتداولة، خاصة سلوكيات أهله، ما يغري ويفيد. وإن كان ما بقي من هذا الماضي، الكثير من الرواسب السلبيّة المستمرة في ذاكرة الشعب المصري وتراثه الكبير. كما يمكن للمتابع لها أن يتعرف على الفكر الإنساني الحقيقي المتصل والمعبر والمستمر بالموروثات الحقيقية الأصيلة في هذا التراث سواء منه الموجود في العقيدة المسيحية بأشكالها الأولى، والممتدة في تنوعها، خاصة في الحياة المصرية المعاصرة، أم في الامتدادات الإسلامية حيث هي أيضًا ملمة، بل عالمة بهذا التاريخ، وإن كانت تحمل نكرانًا ذاتيًّا، إذ صلتها بهذا التاريخ، صلة روحيّة لا جسديّة، وهي التي في ما بينها وبين جسدها، محاكمة يومية. الجسد بحسبانه حاجة أرضية مدنسة بمغريات وشهوات الحياة. هذه هي نظرتها الباطنية لجسدها ذي الحاجات التي تفسد جوهر العلاقة الصافية بين الإنسان وخالقه.
إن من يستمع لها وهي تتحدث عن حياة القديسين القبطيين الأوائل وسلوكياتهم، سيعرف معنى نظرة القبطي لوجوده، بحسبان هذا الوجود تضحية جسدية متواصلة، لا توقف فيها سوى أمام الخالق الأسمى... الله.
من يتعرف عليها في العمق، سيعرف أنها من سلالة متصلة، ووارثة لهذا التاريخ ورموزه مهما تعددت وتنوعت. هي محافظة رصينة متنكرة لذاتها. كما أن من يريد أن يصادقها، عليه أن يتمتع بثقافة الزهد، ونكران الذات، والتنسك والابتعاد من مغريات الحياة، وحيث لا يمكن أن يحصل منها على سرٍّ من أسرارها الخاصة. وإن كانت في لقاءاتها الجماعيّة منها أو الخاصة الفردية تشعرك بالجدية، ولا تتكلم إلا بما هو من صلب ما هو متداول في الاجتماع أو اللقاء.
هذه المواصفات من الزهد والتواضع والتفاني ونكران الذات التي تتمتع فيها هذه الإنسانة، هي ما يمكن لمن يعرفها أن يصفها بالحارس الأمين للموروث القبطي، بل هي المثال والقدوة لهذا الذي تفتخر أنها الحارسة له.
إنها الأيقونة الباقية، بل هي الخلاصة لهذا التاريخ، في زمن انتهى فيه عصر العجائب والقديسين.
هذه الإنسانة المثال، لا تترك مناسبة دينيّة إلا وتكون مشاركة فيها، وملبية للنداء الإلهي بشغف وإصرار، وهي الحاملة منه لكل ما هو من تعاليم وتقاليد ومناسبات وفروض دينية.
إنها مخلوقة من إله تمرد على العالم الوثني، هذا الإله الباقي من خلال صوره البشرية المنقرضة، والمتنوعة والموجودة في هذا الكون. والسؤال الذي يمكن طرحه: هل وفاة زوجها المبكر، وهي في أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من عمرها، دفعها لهذا الذي تمارسه في حياتها؟
إن حذرها المرهف حين الجلوس معها، يشعرك وكأنها مراقبة من قدرة سماوية، أو من مؤسسة عسكرية، أو أنها مع ثلة في غرفة لتوجيه سير المعارك، أو أنها في الكنيسة تستمع لوعظة الخوري، أو لتدلي باعترافاتها. وقورة لا تضحك، وإذا حصل ذلك، فإنها تضحك باقتضاب. إنها تعيش عصرًا لا يعرفه سوى القلة من البشر.
5
مرّ تأسيس المنتدى الثقافي العربي، بثلاث مراحل: أولًا مع د. جابر عصفور؛ وثانيًا مع د. جابر جاد نصار؛ وثالثًا مع النائب عاطف المغاوري، وهو يترأس المنتدى الآن، وتحمل السيدة إيناس جرجس، صفة الأمينة العامة، بحسب التراتبية المعمول بها في المنتدى.
لنعود إلى حكاية تأسيس فكرة المنتدى، فمن بيروت وبعد أشهر من وفاة د. قيس العزاوي صاحب فكرة تأسيس الصالون العربي، كان لي بما تربطني من صلة مع أستاذي ومعلمي د. جابر عصفور، أن أتصل به لأسأل عن صحته. وكنت أسمع من بعض الأشخاص أنه مريض. اتصلت به من بيروت، ومن حديث إلى آخر، ذكرت له عن إمكانية إعادة إحياء الصالون الثقافي العربي، وإن كان بصيغة وإدارة جديدتين. رحّب بالفكرة، وكنت لمحت له أن يترأس هو المنتدى. لم يمانع. فقلت: هل يمكن أن تستقبل أحد الأشخاص، ليشرح لك الموضوع؟ أيضًا رحّب بالفكرة. فذكرت له أن السيدة ايناس جرجس، ستتصل به. حينما ذكرت الاسم، سأل: هل هي لبنانية؟ قلت: لا، هي مصرية. ضحك حينها، وقال: لتتصل بي في أي وقت، مرحبًا بها.
بلّغت السيدة ايناس بما دار من حديث مع د. عصفور، وأعطيتها رقم هاتفه لتتصل به. لكن عندما اتصلت به، كان وضعه الصحي غير مناسب. فاعتذر، وطلب أن تتصل به مرة أخرى بحيث يكون وضعه الصحي أفضل. لم يتسن لها الاتصال بد. جابر عصفور مجددًا، إلى أن وصلت إلى القاهرة. اتصلتُ به فور وصولي، فوجدته في حالة صحيّة صعبة أيضًا.
اعتذر، لكن اتفقنا فور تحسّن صحته، أن يكون لنا لقاء معه برفقة مجموعة أشخاص منهم على ما أذكر: د. عماد أبو غازي، وحلمي النمنم، ود. أمل الصبان، ود. أنور مغيث، ود. محمد أبو الفضل، ود. أشرف عبد الرحمان، وأيضًا السيدة ايناس جرجس، وفرحان صالح. لكن لم يمهلنا القدر، فقد توفي د. جابر عصفور.
أما في المرحلة الثانية، فقد عقدنا اجتماعًا مطولا لاختبار اسم بديل من المرحوم د. جابر عصفور. حضر الاجتماع نخبة من المثقفين، وحين استعراض الأسماء، طرح د. أنور مغيث اسم د. جابر جاد نصار، كي يترأس المنتدى. تم الاتفاق على الاسم الذي رحّب به الجميع. اتصلت بالدكتور نصار الذي كانت تربطني به صداقة. طرحت الفكرة والهدف، فرحّب بهما. ثم ذهبنا إليه مع مجموعة من الأشخاص. عرضت فكرة المنتدى والإدارة له، وأن يترأس هو المنتدى. وافق على الفكرة، فعقدنا ثلاثة اجتماعات في مكتبه.
طرح د. نصار وجهة نظره لكيفية تنفيذ الموضوع، ملمحًا إلى وجود مكتب في المبنى نفسه، يمكننا استعماله لنشاط المنتدى. نزلنا إلى المكتب، وكانت مساحته نحو 400م. لكن، وعلى الرغم من هذا التقدم، إلا أن د. نصار اعتذر عن الاستمرار في المشروع. وعلمنا لاحقًا أن سبب اعتذاره، كان بسبب تعيينه مستشارًا قانونيًّا لدولة الإمارات العربية.
بدأنا من جديد البحث عن شخص آخر، تكون لديه القدرة الثقافية، والوقت لإدارة المنتدى. فتم طرح اسم عاطف المغاوري لهذه المهمة؛ عاطف هو من أبرز السياسيين المصريين، وهو المثال في تمثيل الهوية المصرية. ليس مجاملة في ما أقوله، فعاطف تتمثل فيه الروح المصرية السمحاء، وطيبة أهل مصر، فضلًا عن ثقافه سياسية قلمّا تجدها عند شخص آخر.
*
أخيرًا: من يتابع الحياة الثقافية في مصر، يلحظ أن هناك رعيلًا ممن ساهموا في رسم المشهد الثقافي التنويري في مصر، بدءًا بالطهطاوي الذي ترجم الدستور الفرنسي، ومن بنوده وضمن خصوصية البيئة المصرية، وضعت تشريعات طبقت في المؤسسات التي بنيت في عصر محمد علي. كما كان للمعلم بطرس البستاني دور تنويري في لبنان والعالم العربي، وهو الذي طرح البذور الأولى للفكرة الوطنية، كذلك للفكر القومي العربي، وكان لقاموسه المحيط، أثر مهم في نشر الفكر التنويري، حيث تبنّى المنهجية التي طبقت في القاموس الفرنسي الذي قطع مع الفكر الاقطاعي. كان للبستاني أثره ليس في البيئة السياسية والاجتماعية اللبنانية فحسب، بل أيضًا في البيئة العربية، ففي مصر انتشر العديد من تلامذته، ومنهم: مارون النقاش، وجورجي زيدان، وفرح أنطون، وشبلي الشميل، ولبيبة هاشم... أما البعد الثالث الذي تأثر بما قام به البستاني، فكان البعد العالميّ. هنا يمكن رؤية جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة....
عودة إلى مصر، نرى روادًا أسهموا في رسم المشهد الثقافي المصري العربي، من أمثال: الشيخ محمد عبده، والشيخ علي عبد الرازق، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، ومن ثم ثروت عكاشة. وفي مرحلة لاحقة، برزت وجوه جديدة كان من أبرزها: جابر عصفور تلميذ طه حسين. فإذا كان عكاشة وجمال حمدان الآباء الروحيين لثورة يوليو، وللمشروع الوطني القومي الناصري، فان جابر عصفور هو التلميذ النجيب لطه حسين ولمشروعه الليبرالي.
عصفور هو من أسهم حينما استلم الأمانة العامة للمجلس الأعلى للثقافة، في الانفتاح على الثقافات العربية والعالمية المعاصرة، معززًا توجهاته في ما نشره من أعمال فكرية وعلمية وأدبية، وخاصة بعد استلامه لإدارة المجلس القومي للترجمة، حيث نشر أمهات الكتب العلمية والأدبية والفنية المتنوعة. هذا المجلس الذي تولاه بعده، تلميذه د. أنور مغيث. لهذا كان الخيار بتولي جابر عصفور منتدى الحوار الثقافي، وهو الذي رافق الحياة الثقافية المصرية، وكان واحدًا من الآباء الذين انفتحوا على كل الفلسفات والعلوم المعاصرة، وهذا ما استكمله ابنه الروحي د. مغيث الذي فاقت أعمال ما نشره من ترجمات، المئات، نشرها المجلس القومي للترجمة.
لكن القدر لم يمهلنا مع جابر عصفور، إذ كان الاتفاق أن نذهب إليه مع ثلة من المثقفين المصريين الذين ذكروا، ومنهم على ما أذكر أيضًا: د. نيفين مسعد، وجرجس شكري، ود. محمد غنيم، ود. سلوى بكر، ود. محمد عبد التواب، ود. سمير مرقص، والنائب عاطف المغاوري. لقد اقترحنا، ومن خلال التواصل تلفونيًّا مع د. عصفور، أن يبدأ نشاط المنتدى بالتعريف ببناة الثقافة الحديثة في مصر من أمثال: الطهطاوي، مرورًا بمفتي مصر محمد عبدة، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل... على أن نبدأ بوزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة مهندس ثقافة ثورة يوليو، وباني مؤسساتها، على أن يلقيها د. عبد الله السناوي، يتبع ذلك شهادات عنه. وتم الاتفاق على أن تكون المحاضرة الثانية لباني المداميك الثقافية التلميذ المجدد لفكر طه حسين، عنيت به د. جابر عصفور. حينها اقترح د. عصفور أن يلقي المحاضرة للتعريف بسيرته الذاتية، د. عماد أبو غازي بحسبانه من أكثر الشخصيات الذين رافقوا تجربته وعايشوها. اتصلت بمعالي الوزير عماد، فوافق على المقترح، لكن القدر كان الأسبق على كل ما خططنا له. عقدت الندوة الأولى التي تناولت سيرة د. عكاشة بنجاح، وتكلم د. السناوي الذي قدمه ماجد يوسف، وتليت أيضًا مجموعة شهادات عنه للبعض من الذين لم يستطيعوا الحضور.
ننتظر البدء بالتأسيس لمرحلة جديدة يقوم بها المنتدى. فلنتابع من يراهنون على مؤسسة تنويرية تفتح أبواب العقول للتغيير.
الحداثة (Al Hadatha) – مج. 31 - ع. 232– صيف 2024 SUMMER
ISSN: 2790-1785
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق