Al-Hadatha Journal: 31 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 31 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

الافتتاحية: العربية خارج أوطانها

أسعد النادري - مجلة الحداثة

أسعد النادري *


منذ بداية الفتوحات العربية اشتبكت العربية مع الآرامية في سوريا ولبنان والعراق وانتصرت عليها، وكذلك كان الحال مع القبطية في مصر والبربرية في شمال أفريقيا. واشتبكت لغتنا أيضًا مع الفارسية منذ ما قبل الإسلام، فلم تنتصر إحداهما على الأخرى وإن كان الأثر الذي تركته العربية في الفارسية أقوى وأظهر بكثير من أثر الفارسية في العربية، ولا سيما في مجال المفردات. واشتبكت العربية مع التركية والقوطية فتركت فيهما آثارًا كبيرة، في حين لم تؤثر هاتان اللغتان إلا تأثيرًا ضئيلًا في بعض اللهجات المتفرعة عن العربية.
فإذا انتقلنا إلى الأمم الإسلامية شرقًا كباكستان وأفغانستان وتركستان وما تفرع منها واستقلَّ عنها من الدول، وجدنا العربية تتخذ فيها مكانة عالية تكاد تلامس القداسة على صعيد المفردات والخط، حتى إن ما يقارب 75% من مفردات اللغة الأُردية مثلًا يتألف من كلمات عربية الأصل.
وأما اللغات الأوروبية الحديثة فقد اتخذ الاحتكاك بها مسارب متعددة، أهمها الحروب الصليبية التي دخل إلى هذه اللغات أثناءها عدد لا يستهان به من المفردات والتعابير، ثم الاستعمار الفرنسي والانكليزي والإيطالي لبعض أقاليم الوطن العربي، وهو استعمار أخذ من العربية وأعطاها... زد على ذلك البعثات العلمية العربية التي أُرسلت إلى الغرب فأثَّرت وتأثرت وعادت إلى الوطن العربي ناقلة ما قبسته عن الغرب وحضارته من ثقافة وآداب وعلوم.
ولعلنا لا نبالغ عندما نتحدث عن اللغة العربية خارج أوطانها إذا قلنا إنها خرجت من موطنها الأصلي لتنتشر في كل مكان... وما ذلك إلا بفضل الإسلام العظيم الذي نقلها من حالتها الاقليمية المحصورة في شبه الجزيرة العربية إلى حالة عالمية لا حدود لها، فحيث وجدْتَ مؤمنًا يصلي أو يتلو القرآن وجدت في قلبه وعقله وعلى لسانه اللغة العربية الفصحى بكامل أناقتها وأرقى أساليبها.
وصحيح أن العربية قد سارت في ركاب الفاتحين، وأن هؤلاء الفاتحين كانوا حفاة عراة لا يملكون من أسلحة الحضارة إلا الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يشوبه شك أو تردد، إلا أن لغتهم التي سارت في ركابهم لم تكن حافية عارية، وإنما كانت لغة عبقرية البناء، غنية القواعد، دقيقة الدلالات، محكمة البيان، غزيرة الصور... وقد استطاعت هذه اللغة في فترة قصيرة من الزمن نسبيًا أن تواكب النهضة العلمية التي صنفها وشارك فيها العرب الفاتحون والتي شملت مختلف الحقول المعرفية من رياضيات، وفلسفة، ومنطق، وفلك، وكيمياء، وفقه، وعقيدة، وغيرها.
وسرعان ما خاضت لغتنا صراعاتٍ ثقافيةً ولغوية مع لغات المناطق المفتوحة في الشام والعراق وبلاد فارس وصولًا إلى الصين شرقًا، وفي مصر وبلدان أفريقيا وصولًا إلى الأندلس وفرنسا غربًا، وهي صراعات شملت لغات من عائلتها الساميَّة الحاميّة حينًا، ولغات من فصائل أخرى كالهندية الأوروبية والطورانية وغيرها حينًا آخر، فانتصرت العربية في الكثير من هذه الصراعات وحلَت محل اللغات المغلوبة، وتعايشت مع بعض هذه اللغات مؤثّرة فيها ومتأثرة بها في الوقت نفسه، وإن كان تأثيرها في معظم الأحيان هو الأبَيْنَ والأظهر، كما هو حالها مع الفارسية والتركية اللتين اقتبستا الخطّ العربي وآلافًا من المفردات والعبارات التي لم تقتصر على مسائل الفقه والعبادات، بل شملت مختلف الحقول المعرفية والعلمية.
ولئن كان المجال لا يتسع للكلام على حضور العربية في جميع الأوطان الجديدة التي ارتادتها أو حلّت ضيفة فيها، وهي كثيرة على امتداد العالم، فحسبنا في هذه المقالة المختصرة أن نشير بإيجاز إلى ثلاثة من هذه الأوطان ذات الأوزان الثقيلة لغةً وثقافةً وحضارةً وأدبًا وتواصلًا تاريخيًا مع العربية وأدابها، عنيت بها ألمانيا وتركيا وفرنسا.
والواقع أن حضور اللغة العربية في اللغات الأخرى، بما فيها لغات هذه البلدان، لا يُختصَرُ بعدد المفردات التي زرعتها لغتنا فيها، أو ربما استعارتها منها، بل يمتد ليشمل مختلف جوانب التأثير اللغوي والثقافي من مدارسَ وجمعياتٍ، ومعاهدَ، ومؤسساتٍ رسميةٍ وخاصةٍ تدّرس العربية في مختلف مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي.

- أولًا: ألمانيا

في تناولنا السريع لحضور العربية في ألمانيا بلد المفكرين والفلاسفة الكبار أمثال رودولف دوتوراك، وباول شمتز، وتيودور نولدكه، وكارل بروكلمان، وكثير غيرهم نلاحظ أن هؤلاء المستشرقين قد تركوا آثارًا مهمة على صعيد التواصل مع العربية وأدابها وثقافتها بعد أن تعمقوا في دراسة اللغة العربية والثقافة العربية.
ويبرز من بين هؤلاء المستشرقين أو المستعربين الأفذاذ "يوهان ياكوب رايسكه" الذي يعدُّ أول مستعرب ألماني، ويوصف بأنه شهيد الأدب العربي. وألمانيا هذه هي بلد الاستشراق المختلف - كما يرى إدوارد سعيد - وهو الاستشراق الذي لم تكن له دوافعه السياسية، وإنما اهتم بالدراسة المهنية للنصوص لا بممارسة السلطة الاستعمارية كما كان حال الاستشراق في الدول الغربية الأخرى.
وأما تدريس اللغة العربية في ألمانيا فمن الملاحظ أنه يشهد نهضة واضحة المعالم: فهناك حوالي 2500 مركز عبادة و900 مسجد تدرّس العربية في ألمانيا تدريسًا مرتبطًا بأهداف دينية تتصل بفهم الشريعة وأحكام الدين.
غير أن ثمة تدريسًا للعربية يخرج عن هذا الإطار ويقدم خدماته خصوصًا لأبناء الجالية العربية المقيمة في ألمانيا والتي يقدر عدد أفرادها بأكثر من ثلاثة ملايين عربي، وهم يتزايدون يومًا بعد يوم نتيجة عاملين أساسيين هما زيادة معدل التناسل، وزيادة الهجرة إلى ألمانيا في السنوات الأخيرة.

- ثانيًا: تركيا

معلوم أن الخلافة العثمانية التي حكمت العالم العربي دامت حوالي 600 سنة، وشملت مساحة شاسعة للتفاعل الثقافي واللغوي والحضاري بين الأمتين العربية والتركية، وما زالت رفوف الكثير من المكتبات الخاصة والعامة تحمل كثيرًا من المؤلفات التي كتبها عرب أو أتراك باللغة التركية العثمانية المطبوعة أو المخطوطة بالحروف العربية التي أبدل بها مصطفى كمال أتاتورك الحروف اللاتينية سنة 1928 إثر إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1923.
واليوم، وفي ظل حكم حزب العدالة والتنمية المنفتح على العالم العربي انفتاحًا شاملًا كل المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، تشهد اللغة العربية في تركيا ازدهارًا ملحوظًا ولا سيما مع ازدياد أعداد العرب وخصوصًا السوريين من المقيمين في تركيا والنازحين إليها بعد الأحداث المؤسفة التي شهدتها سوريا بدءًا من سنة 2011، ويعبر عن هذا الازدهار نمّو مراكز تعليم اللغة العربية التي تبلغ المئات، فضلًا عن الأكاديميات المسجلة لدى وزارة التعليم التركية. كما يعبر عنه أن العربية حلّت محل الإنكليزية كلغة ثانية مطلوبة للعمل في قطاعات المهن المختلفة ولا سيما السياحة والبناء والتجارة.

- ثالثًا: فرنسا

معلوم أن بيننا وبين فرنسا تاريخًا من العلاقات أخذًا وعطاءً منذ أيام شارلمان، وبينها وبيننا في العصر الحديث تواصل ثقافي وفكري إيجابي تارة، ومشدود إلى الانتداب في لبنان وسوريا والاستعمار في الجزائر تارة أخرى، وتبقى صلاتنا الثقافية والسياسية والفكرية معها محكومة بمقولة "الأم الحنون" التي يفتتن بها النظام اللبناني والمتأثرون به تأثرًا عاطفيًا- سياسيًا ملحوظًا.
ولفرنسا باع طويل في مجال الاستشراق، ولائحة مستشرقيها الذين اهتموا بدراسة آداب اللغة العربية وترجمة بعض آثارها لائحة غنية تضم أسماء بارزة في طليعتها:
إرنست رينان، ومكسيم رودنسون مؤلف "الإسلام والرأسمالية" و"جاذبية الإسلام"، "ومحمّد"، وغيرها، ومن كبار المستشرقين الفرنسيين أيضًا جاك ريسلم صاحب كتاب "الحضارة العربية" المؤمن بحوار الحضارات والذي نال جائزة الأكاديمية الفرنسية، ومنهم أيضًا سيلفستر دي ساسي، وكارا دي فو وآخرون...
غير أنه يلاحظ أن الاستشراق الفرنسي غالبًا ما تأثر بسياسات الإليزيه والمطامح الاستعمارية الفرنسية وقبل أن يكون مطية لها في كثير من الأحيان.
ولعل من أبرز مؤسسات التواصل الثقافي بين العالم العربي وفرنسا معهد العالم العربي الذي تأسس أصلًا سنة 1980 بالتعاون بين الحكومة الفرنسية واثنتين وعشرين دولة عربية بهدف التعريف بالثقافة العربية ونشرها وتنمية التواصل بين العالم العربي وأوروبا عمومًا وبينه وبين فرنسا بشكل خاص.
وأما على صعيد تدريس اللغة العربية في فرنسا فيقدر عدد الطلاب الذين يدرسونها في مدارس فرنسية بما يقارب العشرة آلاف فضلًا عن أكثر من أربعين ألفًا ممن يتابعون دورات لتعلم العربية في مؤسسات خاصة، مع الإشارة إلى أن العربية هي لغة شريحة واسعة من العرب الفرنسيين، وهي من الناحية الدينية لغة أكثر من عشرين مليون مسلم يعيشون في أوروبا، ومع ذلك يصنفها نظام التعليم الفرنسي لغة أجنبية في إطار لغة الأقليات!
على أنه لا بد من الإشارة في هذا المجال إلى أن بداية الاهتمام بالعربية في فرنسا تعود إلى القرن السابع عشر عندما وجهت فرنسا رجال الدين المسيحيين لدراسة اللغة العربية بحثًا عن أدلّة هادفة إلى فهم النصوص الدينية الخاصة بالكنائس الشرقية، ولكنّ تدريس العربية غدا اليوم مسألة خلافية في فرنسا وموضوعَ أخذٍ وردّ على صفحات الصحف والمجالات والكتب، وهي مسألة افتعلها وأجَّجَ سعيرَها اليمينُ الفرنسي المتطرف بقطبيه العنصريين: مارين لوبين رئيسة الجبهة الوطنية، وإريك زمور اليهودي الموتور ذي الأصول الجزائرية.
غير أن عدد الفرنسيين ذوي الأصول العربية الذي يقدره بعض الباحثين بسبعة ملايين مواطن يتمسك معظمهم بثقافته وتقاليده ولغته، يجعل من حملات لوبن وزمور العنصريّة محاولاتٍ يائسةً معاكسةً لحركة التاريخ وأحكام التطور، فهما كما قال الشاعر:

كناطحٍ صخرة يومًا لِيوهِنَها      فلم يَضِرْها وأَوْهى قرنَهُ الوعِلُ

تبقى كلمة شكرٍ من القلب لكلية الآداب في جامعة الجنان التي أتاحت لي المشاركة بهذه المقالة في المؤتمر الذي أقامته بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية بتاريخ 18/12/2021، وكلمة شكر من القلب أيضًا لمجلة الحداثة ورئيس تحريرها الصديق الحبيب فرحان صالح الذي شرفني باختيار هذه المقالة افتتاحيةً لهذا العدد المميز .

***

* عميد سابق لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. ومدير جامعة الجنان – فرع صيدا حاليا، وأستاذ العلوم اللغوية.

** أتيح لي أن أشارك في أعمال المؤتمر العلمي الرصين الذي انعقد في جامعة الجنان في طرابلس في 17 و18 كانون الأول 2021 بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية بعنوان: "اللغة العربية والعالمية" وكانت لي هذه المداخلة.


ISSN: 2790-1785

ليست هناك تعليقات:

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (1007) أبحاث في الأدب واللغة (362) أبحاث في الثقافة الشعبية (245) أبحاث في العلوم الاجتماعية (182) أبحاث في الفنون (168) أبحاث في التاريخ (125) أبحاث في التربية والتعليم (114) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (80) أبحاث في علم النفس (64) مراجعات (61) أبحاث في الفلسفة (55) صيف 2019 (42) شتاء 2020 (38) محتويات الأعداد (38) افتتاحية الأعداد (37) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) أبحاث في الإعلام (34) خريف 2023 (34) ربيع 2024 (33) شتاء 2024 (33) صيف 2024 (33) أبحاث في الآثار (32) الحداثة : أعلام (32) شتاء 2021 (31) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) الحداثة في الإعلام (24) نوافذ (24) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) أبحاث في القانون (21) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) شتاء 2019 (19) خريف 1994 (18) أبحاث في العلوم والصحة (17) أبحاث في كورونا (covid-19) (17) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) ملف الحداثة (15) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الجغرافيا (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) أبحاث في الإدارة (7) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة