♦ محمد شيا *
مجلة الحداثة - عدد 207 / 208 - ربيع 2020 - al hadatha journal
في وسعي القول: إن مجلة الحداثة نجحت بعد أكثر من ربع قرن (صدر العدد الأول في صيف 1994)، من إضافة أشياء كثيرة إلى ثقافتنا بعامة، وإلى وعي المثقفين، وأدوات عملهم على وجه الخصوص. فخطّ المجلة الثقافي العام، العلمي أولًا، الإنساني ثانيًا، والعروبي الوطني، والملتزم أخلاقيًّا بما يعزز الهوية العربية الوطنية لبلدنا ولمناخه الثقافي، وبما يعزز الهوية الإنسانية لعروبتنا بعيدًا من الشوفينية، وبما يتصالح مع أي تجربة دينية شرط خلوها من الغلو، واحتكار الله، والنأي عن تحريض أو كراهية ضد الآخر المختلف. هذه الهويات المتداخلة كانت لأكثر من 27 عامًا... متراسًا قدمته "الحداثة" للمثقف العربي كيما يقف على أرض صلبة في تحديد خياراته، وبوصلته الثقافية، وسط إغراق للسوق الثقافية بكل ما هو رخيص وتافه وغرائزي وتعصبي من هذه الجهة أو تلك، وكانت جميعها بضائع ثقافية غب الطلب، ومدفوعة الثمن والأجر، وتصبّ آخر الشوط في تجويف ثقافتنا العربية، وروافدها الوطنية من أي معنى إنساني أو قومي إبداعي أصيل.
كانت النزعات الدينية المتعصبة الاقصائية، ونزعات العولمة الثقافية السطحية، وبعض مظاهر الوطنية العنصرية الشوفينية، لدى بعض الكتاب والصفحات الثقافية ودور النشر، هي الخصم الافتراضي الذي نازلته الحداثة على فارق في الموارد والامكانات المادية، ومع ذلك فقد تمكنت بجهود ناشرها ورئيس تحريرها فرحان صالح، والتفاف عدد كبير من المثقفين العضويين حولها أن تستمر، وتبقى البوصلة الثقافية التي نجحت في نسج توليفة من المبادئ والقيم الثقافية الرفيعة، والتيستبقى، كما أعتقد كذلك، لجيل يلي من منتجي الثقافة ومبدعيها ومتذوقيها.النقطة الأخيرة تتعلق بأدوات الإنتاج الثقافي واشكاله... فمتابع إصدارات المجلة، سيرى أنها حافظت منذ البدء، وإلى اليوم، على مستوى علمي رفيع لجهة مستوى ما تقدمه من دراسات وملفات ومقالات؛ فالهوية الإنسانية القومية الوطنية لم تكن عذرًا لقبول التراخي في المستوى العلمي والمنهجي للمواد، وإنما حافز إضافي لتأصيل أعمالنا الثقافية، واحكام تماسكها المنهجي، وأصالتها وإبداعها. وقد فعلت الحداثة ذلك بنجاح، فتجنبت الخطابية التي وقعت فيها دوريات قومية أخرى، ففقدت معناها ومن ثمة جمهوره.
تحية متجددة لمجلة الحداثة وإدارييها وكتّابها، وإلى خمسين سنة أخرى، لجيل قادم ممن سينتسب إلى النزعة الإنسانية نفسها... وعسى في ظروف عالمية أقل هيمنة، وفي ظروف عربية أكثر عقلانية وديمقراطية، وأقل استبدادًا واحتكارًا للسلطة والثروة القومية... وأحسن حالًا للشعب الفلسطيني المظلوم منذ مئة عام.
* بروفسور، وعميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية سابقا، وأستاذ الفلسفة الحديثة والمنهجيات في الجامعة اللبنانية، ومؤلف ومترجم.