♦ فرحان صالح
- نبذة عن المقالة
هناك في شارع طلعت حرب التقينا. كنت أتردد على هذا المكان منذ الربع الأول من ثمانينيات القرن الماضي، لكن تكثفت معرفتي فيه كمكان في التسعينيات؛ فالمراكز السياسية الناصرية كانت ملجأ لي. تلك المراكز التي تأتي إليها نخب تطمح ببناء حزب يرتكز ويضيف إلى ما بدأه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، أيضًا مواجهة التشويه الذي التحق بتلك التجربة.
تعرفت في ذاك المكان/الأمكنة إلى عشرات النخب السياسية، منهم السيدة إلهام. القليل من تلك النخب من عايش تجربة ناصر، وكان فاعلًا فيها، ومنهم من توارث التجربة مقتنعًا بها، وبإمكانية البناء عليها، بل، والإضافة إليها وتحويلها إلى مشروع حياة. كان هذا هو هدف هؤلاء، ومنهم أيضًا، الهواة الراغبون في تعميق معرفتهم بهذه التجربة (المدرسة)، ظنًا أنهم يستطيعون البناء والتطوير في حياتهم، خاصة مواجهة التشويه المبرمج الذي قامت وتقوم به النخب التي استفادت من النظام الساداتي، ومن ثم من نظام حسني مبارك. ناهيك بما قامت به جماعة الإخوان المسلمين. لكن هذه الأحزاب وبعد عقدين من الزمن لم تؤسس للمشروع القومي الذي كانت الأجيال تسعى إليه، وتعمل على تحقيقه. أصبح من يترددون على تلك المراكز الناصرية، يغلب عليهم اليأس، يتوارثون حلمًا، من دون أن يشاهدوا ايجابيات تخلق أملًا.
حملت تلك النخب السياسية الاسم خمسين سنة دونهم المشروع الحلم كانت الوعود المجهضة، لم يتوحدوا، ولم يسعوا إلى أي تعاون بهدف توحيد جهودهم. لقد أعطوا وبرروا ما قاموا به، وبما مارسوه، شرعيةً لما قام به أعداء المشروع الناصري. لقد عُدّت المرحلة الناصرية بالنسبة إلى السادات ومبارك والإخوان، السبب في النكبات والفقر والمرض والخوف والهجرة، وفقدان الثقة والأمان والاستقرار التي تعرفه مصر والعالم العربي. بهذا تم تبرئة الجناة الحقيقيين مما اقترفوه من جرائم، ومما وصلت إليه الشعوب العربية من تردٍّ؛ فبعد السبعينيات بدأت مرحلة جديدة كانت ضحاياها حركات التحرر الوطني العربية، لقد ارتهنت الشعوب العربية سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا للخارج. سيطر المشروع الأمريكي، وارتمى العرب بأحضان القوى العدوة، ابتعدوا من حليفهم، حليف حركات التحرر أي الاتحاد السوفياتي. أصبحت حركات التحرر الوطني منبوذة في تلك الفترة الممتدة من السبعينيات حتى اليوم.
تعرفت بل تنقلت وتعرفت على كل الدول العربية دون استثناء. كانت مجمل التجارب العربية شبيهة، لــم تـــــكن مغايــــــرة سوى بالشكل.
تعرفت في تلك الأمكنة على نخب استثنائية لكنهم لم يتمكنوا من تكوين مشروع للتغيير. بقيت قوى التغيير مشتتة، مفتتة منفصلة في خطابها عمّا تمارسه؛ توالي دون أن تعرف معنى الموالاة والمعارضة أو التغيير الثوري. لقد رسم عبد الناصر مشروعًا يعيد الفلاحين إلى الأرض التي ولدوا فيها، يبني للطلاب المدرسة والمختبر والملعب والجنينة، وللعامل المصنع لتأمين الحاجات الحياتية المنزلية، وغيرها من التأمينات الصحية، وبنى مشروعًا لمكافحة البطالة والأمية والفقر والعوز والارتهان.
عبد الناصر وبن بيلا وبو مدين وفؤاد شهاب وشكري القوتلي وعبد السلام عارف والسلال وبورقيبه وغيرهم وغيرهم، هم الغائبون المنفيون المشردون، يفتشون عن أمكنة يلتجئون إليها.
في تلك الأمكنة التقيت بإلهام.