مجدي يوسف *
يقف عرب اليوم في مفترق الطرق بين تراث عريق، ومعاصرة لقوى غربية صارت مهيمنة على مقدرات الشعوب في عالم اليوم. ولعل ذلك ما يبعث الكثيرين على البحث عن حلّ لهذه الإشكالية لاسيما أن قضية الهوية متعلقة بتراث الذات الحضارية، بينما سؤال الحداثة متصل بالآخر الغربي المتفوق علميًّا وتكنولوجيًّا، والذي لا يمكن تجاهله أو الانغلاق عليه بحال من الأحوال. لذلك نتساءل: هل يمكن لعرب اليوم أن تصبح لهم حداثتهم من دون أن يفقدوا خصوصياتهم الثقافية، ويتوحدوا بالقيم الغربية في الإنتاج وأساليب الحياة؟ وإذا كانت السياسات الاستعمارية الغربية تحرص على خلق تبعيات ثقافية لها في عالمنا العربي طالما قوبلت بالرفض والمقاومة الشعبية، بينما كرسها ممثلو الطبقات المهيمنة في المجتمعات العربية، وظهرت على السطح منذ مطلع القرن العشرين في مصر (طبقة كبار ملاك الأراضي)، وفي أواسط القرن الماضي في سائر البلاد العربية، بعد انحسار الاستعمارين الانجليزي والفرنسي اللذين حرصا على اقتسام العالم العربي قبل أن يرثهما الاستعمار الأمريكي الذي صارت تدخلاته سافرة على نطاق دولي منذ الحرب العالمية الثانية؟
يرى الكثير من مثقفينا أن المدخل للإجابة عن هذا السؤال هو عرض التاريخ الحديث للآخر والذات على أنه تأريخ لتيارات فكرية، ولمنجزات علمية وتكنولوجية. ولعل كتاب المفكر المصري صلاح سالم الذي أفاض الكاتب اللبناني فرحان صالح في عرضه في عدد سابق من "الحداثة"، نموذج لذلك التوجه الذي يرى أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ الأفكار والتقنيات التي تمرّ بها. بينما نرى أن هذا التوجه بحاجة للمراجعة لأنه ينظر لما أفضت إليه التطورات الاجتماعية، أو بالأحرى المجتمعية (الاجتماعية الاقتصادية والثقافية في جدلية علاقاتها) على أنها نتيجة للتحولات الفكرية في المجتمع، وليس العكس. فإذا ما كانت الحداثة الغربية قد نشأت من خلال نضال الرأسمالية التجارية ضد العلاقات الإقطاعية في أوربا، وذلك سعيًا منها لتحقيق مشروعها الهادف لتعظيم الربح النقدي الفردي والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الثروات الاجتماعية، فقد كانت بحاجة لأدوات وتقنيات تساعدها على تحقيق ذلك. من هنا كان دافعها لترجمة التراث الإسلامي في العلوم والتكنولوجيا إلى اللاتينية، ونقلها عبر طليطلة لمختلف بقاع أوربا لدعم مشروعها. لكنها في الوقت ذاته لم تنقل تلك العلوم الإسلامية كما هي - على ذلك النحو الذي ينادي بعض العرب المحدثين عن حسن نية بالنسبة لنقل التكنولوجيا الغربية نقلًا حرفيًّا لمجتمعاتنا العربية متصورين أن "بضاعتنا ردت إلينا" - إنما غيرت منها ابتداء من مشروعها هي، بأن فصلت منجزاتها العلمية عن النظام القيمي الذي كان مصدرًا لتوجيهها في العالم الاسلامي في حقبة صعوده على النطاق العالمي. فقد كان ذلك النظام القيمي الإسلامي بمبادئه العامة متعارضًا مع انطلاق بلا حدود لمشروع الرأسمالية التجارية الأوربية الرامي لتعظيم الربح النقدي الفردي. ولما كانت المعادن النفيسة التي يقوم عليها النقد الممثل للثروة، قابعة خارج أوربا في القارات الثلاث: أفريقيا، وآسيا، والأمريكتين، فقد كان هذا هو الدافع وراء رحلات الكشوف الجغرافية للاستحواذ على تلك الثروات، حيث انطلقت من اسبانيا والبرتغال، ثم تلتها سائر البلدان الأوربية. من هنا نشأت ظاهرة الاستعمار الأوربي لتلك القارات الثلاث التي ألحقت بها في القرن العشرين كل من استراليا ونيوزيلانده. ومن هنا أيضا نشأت ثنائية الحيل الأوربية في الحصول على ثروات شعوب القارات الأخرى، وحجب تلك الحيل عنها في الوقت ذاته، إلا بالقدر الذي يسمح بتبعيتها المعرفية والتكنولوجية لها. وفي حالات أخرى كان المستعمر الأوربي ينتهج سياسة تحديث جزء ملحق به من المجتمعات المستعمرة، وترك الجزء الآخر بعيدًا من أية عملية تحديث، كما فعلت فرنسا على سبيل المثال في المغرب الأقصى بما عبرت عنه نظريتها الثنائية: المخزن والسيبا، أحدهما حديث متفرنس، والآخر تقليدي مستغرق في تراثه. وغني عن البيان أن كلا التنظيمين الاجتماعيين كان بالغ الضرر بالمجتمع المغربي، فهو لم يساعد فقط على انقسامه على بعضه، وإنما بالمثل على ابتعاده عن تحقيق ما هو بحاجة إليه من استقبال منجزات الآخر وتقنياته في إطار تحديث حلول تراثه الخاص في عملية تفاعل إبداعي لا يدعم الذات الحضارية وحدها، وإنما يحقق إمكان التفاعل المثري للآخر الحضاري بالمثل من خلال تبادل الحلول النابعة من إعادة اختبار منجزات الآخر ابتداء من الاختلاف الموضوعي للذات في ممارساتها الاجتماعية اليومية. وهذا هو على وجه التحديد ما دفعنا من خلال المشروع البحثي الجماعي بالضرورة نظرًا لتعدد تخصصاته بحيث تشمل كافة المعارف الحديثة، لتقديم نموذج بديل للارتماء في أحضان الغرب باسم الحداثة، أو التعامل معه ابتداء من اختزال الهوية الثقافية للذات إلى صورة معينة للتراث تبغي تثبيته وفرضه على نحو قامع للشعوب العربية ومجمد لقدراتها الإبداعية في تشكيل حياتها على نحو متجدد.
وفيما يلي نعرض للخيار المنهجي البديل الذي اقترحناه في شكل عمل بحثي جماعي يستهدف حلًا عقلانيًّا لإشكالية العلاقة بين الذوات العربية المحلية، وتلك الغربية المهيمنة على عالم اليوم والمستحوذة بقدراتها التكنولوجية على معظم ثروات القارات الثلاث لاسيما عالمنا العربي المعاصر. وقد أثمر هذا المقترح المنهجي عن كتابنا الصادر هذا العام في كمبردج بالمملكة المتحدة تحت عنوان: الإسهام العربي المعاصر في الثقافة العالمية: حوار عربي – غربي (بالإنجليزية وبه فصل بالفرنسية). وفيما يلي عرض ملخص لهذا الكتاب الذي كان ثمرة مؤتمر نظمته ووضعت محاوره، واقترحت منطلقاته المنهجية حيث عقد في مقر اليونسكو بباريس في مارس 2009.
يستهل الفصل الأول من الكتاب بتقديم الإسهام العربي المعاصر في مجال العلوم الطبيعية من خلال علوم الدواء، وهندسة الإنتاج.
وفي علوم الدواء لم يصدر الدكتور محمد رؤوف حامد في أبحاثه بجامعة الفاتح في ليبيا في نهاية السبعينات ومقتبل الثمانينات من القرن الماضي عن "المعترف به دوليًّا" في مجال تخصصه، إنما عن اختلاف العادات الغذائية في المجتمع الليبي ومدى تأثيرها على تمثيل الدواء غربي المنشأ. حيث تبين له أن عادة استهلاك الليبيين لمادة الهريسة الحارة بانتظام مع كل وجبة لا يفضي لما تروج له "إدارة الغذاء والدواء" الأمريكية من أن هذه المادة تحدث قرحًا بالإمعاء والاثني عشر، إنما تقلل من إمكان حدوث تلك القرح، بل تكسب صاحبها مناعة ضدها. وهو ما قدمه الدكتور رؤوف حامد مع طلبته في مؤتمرات علوم الصيدلة في كل من "فينا، عاصمة النمسا، و"مونترو" في سويسرا وفي اليابان، مما أثار الكثير من المناقشات في هذا المجال. لذلك كان عنوان بحثه في المؤتمر الذي عقدته في باريس: الخصوصية مصدرًا للأصالة البحثية. مع ذلك فقد رفضت الخارجية الفرنسية أن تمنحه تأشيرة لمدة ثلاثة أيام لدخول فرنسا لإلقاء بحثه هذا في مؤتمرنا مع أنه سبق للدكتور حامد أن حصل أكثر من مرة على تأشيرة سياحية لدخول فرنسا! ولعل السبب في عدم تصريحها له في هذه المرة يتسق مع القرار الصادر من قبل الجمعية التشريعية الفرنسية بالحثّ على الاعتراف بـ"فضل الثقافة الفرنسية على مستعمرات فرنسا" (وهو ما احتجت عليه الحكومة الجزائرية آنذاك بشدة). والغالب أن ذلك الرفض دون إبداء الأسباب، يرجع لكوني قد وجهت - بصفتي رئيسًا للمؤتمر- الدعوة إليه بالفرنسية ذاكرًا عنوان المؤتمر، ظنًا مني أن ذلك سيسرع من إعطائه التأشيرة، بينما لم أفعل ذلك عن غير عمد مع سائر الباحثين المدعوين للمؤتمر ذاته.
وقد جاء تعقيب الباحث النمسوي الشهير في مجال الجهاز الهضمي بمعهد الدراسات الدوائية في جامعة "جراتس" الطبية بالنمسا، البروفيسور "بيتر هولتسر"، مؤيدًا تمامًا لما توصل إليه الدكتور رؤوف حامد في بحثه القيم، ومشيرًا إلى التاريخ العريق لعلماء العرب القدامى من أمثال ابن الهيثم، وابن سينا اللذين علما الغرب الأسس التي يقوم عليها العلم التجريبي الحديث، ناقدًا الدوريات الغربية المعاصرة في تحيزها أحادي التوجه لنشر أبحاث المشاهير من الغربيين دون الاهتمام بأبحاث المهمشين في البلاد البعيدة من دائرة الضوء في الغرب، بينما دراسات هؤلاء النابعة من الخصوصيات الثقافية الاجتماعية التي ينتمون إليها هي التي يمكن أن تثري البحث العلمي وتضيف إليه على مستوى العالم.
أما بحث الدكتور حامد الموصلي في هندسة الإنتاج فكان موضوعه: الموارد المادية المتجددة: أساس مادي للتنمية الذاتية المستدامة في المجتمعات المحلية. عنوان طويل نوعًا ما لبحث أكاديمي، لكنه مع ذلك مبرر تمامًا. فتعريف الموصلي يعرف هنا الموارد المادية المتجددة بأنها: "تأتي من أصول بيولوجية (...) خاصيتها الجوهرية أنها كانت ولا زالت حية (...) أي تعكس شكلا من أشكال الحياة الطبيعية، وبذلك تشكل نسقًا إيكولوجيًّا صغيرًا (...) لكنه لا ينفصل عن النظام الإيكولوجي الأكبر. مما يعني أن هذه الموارد المادية المتجددة تحمل داخلها – وإن يكن في صورة مصغرة – كل مكونات الشفرة الجينية للطبيعة "الأم"، ومن ثم لتعاقب الحياة والموت فيها".
ويرى الموصلي أن هذه الموارد المادية المتجددة "تتوفر بتكلفة زهيدة في المناطق الريفية فيما يدعى "العالم الثالث" (مع ما لنا على هذا المفهوم من تحفظات – م. ى.)، وفي سياق اقتصاد المعيشة ترتبط هذه الموارد المادية المتجددة، وعلى وجه الخصوص البواقي الزراعية منها، بإشباع الحاجات الأساسية لقاطني المناطق الريفية بخاصة حيث يعكس الموروث الثقافي والتقني لهذه المجتمعات قدرة خلاقة على إبداع طرق جديدة لتوظيفها واستخدامها على المستوى المحلي (...) هذا بينما أدى الاعتماد المتزايد على طرق الحياة الغربية إلى إهمال متعمد للموارد المادية المتجددة والمتاحة محليًّا، وما يرتبط بها من موروث تقني وإبداعات ثقافية نابعة من بيئتها... حتى تراجعت لتصير مصدرًا للتلوث البيئي، وعبئًا اقتصاديًّا على مجتمعاتها المحلية".
من هنا تقدم ورقة العالم الدكتور حامد الموصلي "نماذج متعددة تكشف دور العلم والتكنولوجيا في تعبيد طرق جديدة لتوظيف هذه الموارد المتجددة في إشباع الحاجات الأساسية لغالبية سكان الريف، فضلا عن نشر صناعات منزلية صغيرة معتمدة على تلك الموارد المتجددة ومتناغمة ثقافيًّا وتكنولوجيًّا مع السياقات الريفية المحلية". وتقوم ورقة الموصلي هذه على بحث ميداني أجراه على مدى أعوام طويلة على النخيل في المجتمعات العربية حيث يمكن الاستفادة من كل مكونات النخلة للغذاء والبناء وصنع مختلف المنتجات التي يحتاجها المجتمع المحلي. وقد استطاع الموصلي أن يوفر بمعونة خارجية(!) لسيدات الريف في مصر موتورًا منزليًّا صغيرًا يقمن به وهن في دورهن بتصنيع تلك المنتجات القائمة على مخلفات النخيل، وبيعها في الأسواق مما يسهم في تحرير المرأة الريفية من سطوة الرجل ويكسبها مكانة اجتماعية في أسرتها ومحيطها.
وقد أشاد الدكتور "هانس فان فينن" (بتعطيش الفاء)، أستاذ العلوم البيئية في جامعتي "أمستردام"، و"فينديسهايم" في هولندا، ببحث الموصلي الذي يعتمد على البيئة المحلية وتراثها المادي والثقافي في استخدام التقنيات الحديثة الوافدة لتعظيم الاستفادة من تلك المواد المحلية بدلا من اللجوء للاعتماد على التقنيات الوافدة "المستحدثة" بعيدًا من التراث الخاص بكل منطقة. وبذلك فالدكتور الموصلي في كلمات المعقب الغربي "يساعد على تعظيم دور المواطن في المناطق الريفية في عملية إنتاج واستهلاك الموارد المتاحة بيئيًّا، مما يدعم دوره كمبدع وصانع للقرار في مجتمعه المحلي". وإذا كان الاقتصاد السياسي كعلم اجتماعي نقدي يعدّ العصب الرئيس لا أقول لكافة العلوم الاجتماعية وحدها، وإنما لفهم الأسس المجتمعية لكافة التخصصات الدقيقة بجميع مجالاتها، فقد دعوت شيخ أساتذة هذا العلم في عالمنا العربي، الدكتور محمد حامد دويدار (جامعة الاسكندرية) ليقدم في هذا المؤتمر تفسيرًا مختلفًا عما هو شائع في الكتابات الغربية في مسعاها لـ"شرح" أسباب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مرت بها أمريكا في عام2007، ومن ثم الاقتصاد التابع للأمريكي في مختلف القارات فيما عرف بأزمة الائتمان العقاري. فقد درجت معظم الأدبيات الغربية على توصيف هذه الأزمة بأنها "مالية"، بينما أوضح دويدار في بحث قارب الخمسين صفحة، أنها أزمة "هيكلية"، وليست محض مالية لنمط إنتاجي صعد في الغرب الحديث ليتجاوز النظام الإقطاعي السائد في القرون الوسطى الأوربية، رافعًا راية رأس المال التجاري، ليصير شعاره الأثير: دعه يعمل، دعه يمر. وبذلك أصبح لغير الملحقين بالطوائف الحرفية التي احتكرت العمل في القرون الوسطى الأوربية أن يمارس نشاطه الحرفي، وللتاجر المروج لإنتاجهم أن يمضي به عبر الحدود إلى مختلف أرجاء العالم بلا قيود. إلا أن نمط الإنتاج الجديد صار على "ثوريته" يحمل عوامل فنائه من داخله بافتئاته على الطبيعة الاجتماعية للإنتاج عن طريق الحافز الفردي لتحقيق الربح النقدي على طريقة "خصخصة المنافع وتعميم الخسائر". وعلى الرغم من مسعى "آدم سميث" لتبرير ذلك الطابع الصراعي للإنتاج الرأسمالي بما دعاه "اليد الخفية"، إلا أن تفتيت العملية الإنتاجية في ظل اقتصاد السوق الرأسمالية لم يفض وحسب لاغتراب المنتج عن منتجه، ليصبح مجرد سلعة لا تحمل طابع صانعها في الأسواق، وجعله مجرد "مستهلك" لما ينتجه وسواه عبر آليات السوق، قد جعل الإنسان مفرغًا من حميمية علاقته بما ينتجه وما يستهلكه ليصبح مجرد "زبون" في الأسواق لا غير. وهو ما يترتب عليه الفصل بين قيم الاستعمال التي تحمل ذلك الطابع الحميمي للإنتاج والاستهلاك في آن، وقيم التبادل التي تخضع لآليات السوق بما تكرسه من مسعى لتوسيع نطاقها بأي ثمن كي تحقق الربح النقدي للفرد على حساب المجموع. فليس المهم أن يكون منتجًا، وإنما المهم أن يكون حائزًا على النقود التي تسمح له بشراء إنتاج الآخرين مسلوبي الهوية في الأسواق.
وقد ترتب على الدافع الفردي لتحقيق أعلى ربح نقدي ممكن تقسيم العملية الإنتاجية لعدة وحدات منفصلة عن بعضها البعض، وفصلها عن المستهلك في آن. فبعد أن كانت في السابق موصولة كحالة صانع الأحذية الذي يصنع الحذاء يدويًّا، ويسلمه لمستهلكه فيتقاضى عليه أجره مباشرة، إذ بهذه العملية التي لا فصل فيها بين الإنتاج والاستهلاك تصبح في مصنع الأحذية "الحديث" مجزأة لسلسلة من العمليات المنفصلة عن بعضها البعض. بحيث يصبح كل منتج مباشر مختصًّا في المصنع بإحدى تلك العمليات وحدها دون سواها، لتجمع تلك الوحدات المنفصلة عن بعضها البعض في النهاية في شكل الحذاء المعروض للبيع على أمل أن يحقق صاحب المصنع، أو المشاركون في رأس ماله أعلى ربح نقدي ممكن في الأسواق. وهو ما يترتب عليه سلسلة من الانقطاعات تمثل بذرة الأزمة في النمط الإنتاجي الحديث. فصاحب رأس المال بحاجة للحصول على قرض من البنك للقيام بمشروعه، ثم شراء قوة العمل من الأسواق، وتدريب العمّال على ما سيقومون به في المصنع، وقد يمرض أحدهم أو يتوفى، فيضطر لإحلاله بمن يقوم مكانه، ثم طرح المنتج النهائي في الأسواق على رجاء تحقيق الربح النقدي الذي هو دافعه الرئيس في كل هذه العمليات الإنتاجية. كل ذلك مليء بالمخاطرات والانقطاعات التي قد لا تفضي لما يرجوه صاحب رأس المال من تعظيم ربحه الفردي. وحتى يتغلب على أزمة عدم إمكان المنتج المباشر أن يدفع ثمن ما أنتجه دفعة واحدة، غالبًا ما يلجأ صاحب رأس المال لنظام التقسيط في البيع عن طريق البنوك. وهو ما أدى مؤخرًا للأزمة المروعة لـ"نظام" الائتمان العقاري في الولايات المتحدة، حيث أقبل الكثيرون على شراء الوحدات السكنية دون أن يمكنهم دفع أقساط تملكها، مما أدى لانهيار أعتى بنوك التسليف العقاري في الولايات المتحدة كما شاهدنا.
وقد دأبت الكتابات الغربية على وصف هذا الانهيار بأنه يعبر عن أزمة مالية. بينما يكشف بحث دويدار عن جذور تلك الأزمة في نمط الإنتاج السائد الذي أنتجها، وهو ما يدعونا للنظر إليها في بعدها التاريخي كأزمة هيكلية لذلك النمط الإنتاجي، وليس محض آنية.
الذلك يلزم النظر إلى الأزمات الدورية لنمط الإنتاج السائد في العصور الحديثة من منظور تاريخي للتعرف على إيقاع ترددها الذي يشابه كبوة الحصان المتكررة، وذلك بالرجوع للمائة أو المائة والخمسين عامًا الأخيرة وتردد تلك الأزمات على مدى دوري قريب، ومتوسط(1)، وبعيد بحيث صار عبئًا على البشرية، مدمرًا لها في صورة مجاعات، كتلك التي أودت بحياة مليون ايرلندي في منتصف القرن التاسع عشر، وأمثالهم في الهند، وحروب شعواء على شعوبها المنتجة (أنظر الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية، ثم الحرب على شعب أفغانستان وشعوب المنطقة العربية في أواخر القرن الماضي وأوائل الحالي).
ويتعلق بذلك التوجه العام الحرص على محو الذاكرة التاريخية للشعوب بوصفها تعبر عن هويات تلك الشعوب وخصوصياتها الثقافية، وهو ما تمثل في تيسير الاعتداء على المتاحف في العراق، بوصفها من أقدم موروثات البشرية، وسرقة ونهب وتحطيم محتوياتها تحت مسميات "عقائدية" مبتسرة، أو لمجرد بيع ما ينهب منها في الأسواق وتحقيق ربح نقدي فردي على حساب تاريخ واحد من أقدم شعوب هذا العالم.
وإذا كنت قد توقفت لبعض الوقت أمام الاقتصاد السياسي بوصفه علمًا اجتماعيًّا ناقدًا، فإنما لتوضيح ما سيلي ذلك من ورقات قدمت في مجال التنظير للأدب والفن، مختارًا هنا العمارة باعتبارها جامعة لمختلف الفنون، ثم اقتراح منهج بديل للمذاهب الغربية لدرس علاقة الأدب العربي المعاصر بالأدب العالمي.
ولعله من الواضح أن البصمة التي تركها حسن فتحي في مجال العمارة تجيء في مقدمة الإسهام العربي المعاصر في هذا المجال على مستوى العالم. وفي غياب هذا الرائد قدم ورقة بحثية في المؤتمر "جيمس ستيل"، أستاذ العمارة في جامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية، تحت عنوان: عمارة الهوية عند كل من حسن فتحي وراسم بدران. وتقوم ورقة "ستيل" على فرضية أن عمارة حسن فتحي وتلميذه الأردني من أصل فلسطيني بحكم الاستلهام راسم بدران هي نوع من مقاومة الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، ورد فعل وطني بإزائه في صيغة معمارية. وهو ما يختلف معه في تعليقه الباحث الألماني "أندرياس فايلاند" بتعطيش الفاء (جامعة آخن التكنولوجية سابقا)، رائيًا أن تفسير "ستيل" لظاهرة عمارة الفقراء عند حسن فتحي، أو العمارة البيئية لدى راسم بدران لا يمكن أن تختزل لمجرد ردّ الفعل الرافض للهيمنة الأوربية في الأوطان العربية، وإنما هي في الأساس، في حالة حسن فتحي، تحيز للنظام القيمي والعملي في بناء دور الفلاحين في قرى مصر بدلا من الانصياع لآليات السوق المدمرة لذلك النظام القيمي في عقلانيته وارتباطه بمواد البناء وطرقه لدى عامة الفلاحين البسطاء. فهو على العكس مما يعنى المعماريون المحدثون لا يبحث عن صيغ وأشكال معمارية مجردة، وإنما يصدر عن التعرف على عقلانية طرق البناء في القرى المصرية، ويسعى لتفعيلها بكل ما أوتي من معرفة علمية عصرية.
أما بالنسبة لراسم بدران فقدم ورقة تحت عنوان: سرديات المكان، بمعنى الكشف عن الراقات الحضارية لا للعمارة الدولية التي لا تعرف تلك الخصوصيات، ولا يعنيها سوى أن تضع الإنسان في معلبات سكنية سابقة الصنع لا يشعر فيها بتحقق خصوصيته الحضارية بحال من الأحوال. ويحضرني في هذا الصدد أني شاهدت بنفسي ما ترتب على بناء جامعة بوخوم في ألمانيا في أوائل سبعينات القرن الماضي على نمط العمارة الوظيفية، أو ما يدعى كذلك، من انتحار الطلبة في غرف دارهم الملحقة بالجامعة نظرا لما عانوه من إحباط نفسي شديد بسب التكرار الرتيب لتلك العمارة التي شيدت على نمطها الجامعة، وتكلفت آنذاك ملياري مارك في مرحلتها الأولى. ولم تكن تلك العمارة المحبطة سوى "رد فعل " لما سبقها من تصاميم معمارية محض شكلية. الأمر الذي يختلف جوهريًّا عما دفع حسن فتحي لتبنى وتفعيل عمارة الفلاح المصري بخاماته المتاحة بيئيًّا، وطرق بنائه المتوارثة عن الأجداد للقباب وملاقف الهواء، فضلا عن النظام القيمي التضامني في الريف المصري. فهو بهذا المعنى تحيز اجتماعي للمنتج الحقيقي للغذاء ومواد التصنيع التي يقوم عليها المجتمع المصري، وليس تكيفًا مع آليات السوق العالمية التي تماهت معها الطبقات الطفيلية في المجتمع المصري التي غالبًا ما كانت تقطن المدن، وتعيش من فضلة خير الفلاح المصري المنتج لأغلب القيم المادية والمعنوية في بلاده بينما تغمطه أبسط حقوقه الإنسانية. كانت هذه هي النقطة الأساسية في نقد الباحث الألماني "أندرياس فايلاند" (بتعطيش الفاء) لما ذهب إليه "جيمس ستيل" في ورقته. وإن لم يفند "فايلاند" بمنظوره الفكري المثالي، على الرغم من "مادية" توجهه المنهجي، توصيف حسن فتحي لمشروعه، وهو ما ردده من بعده مؤرخه "جيمس ستيل"، بأنه "كان فاشلا". فقد هجر الفلاحون قرية القرنة التي شيدها لهم، ولم يقبل على دعوته لـ"عمارة الفقراء" سوى الأثرياء، وكبار المثقفين المصريين، فضلا عن بعض الأمريكيين في بلادهم.
وعلى درب حسن فتحي مضى راسم بدران في مسعاه لمقاومة آليات السوق العالمية المدمرة للطابع المحلي الحميم للعمارة العربية المعاصرة باكتشاف خصوصياتها الثقافية والاجتماعية التي تشعر الساكن العربي أنه يسكن إليها، وأنها ليست مجرد بهلوانيات شكلية لإرضاء غرور بعض ذوي المال، وإنما تحقيقًا لحاجة المواطن العربي في أن يشعر بارتباطه بالمكان الذي يأويه.
وفي ورقتي التي أنهيت بها أعمال المؤتمر المذكور، والتي تحمل عنوان: مدخل منهجي بديل لدرس العلاقة بين الأدب العربي المعاصر والأدب العالمي، صدرت عما دعوته "سياق المجتمع المستقبل" – بكسر الباء - للأدب أو الآداب الأجنبية في مقابل المناهج الغربية التي تصدر إما عن الدرس المحض فقه لغوي لإنتاج الأدب، أو عن قارئ الأدب بالمعنى المجرد العام القائم على أساس هرمونيطيقى (تأويلى) بوصفه عاملًا فاعلًا في استقبال وتقييم الأعمال الأدبية.
أما دراستي التي قدمت فيها منهجًا مختلفًا جذريًّا عن كلا التوجهين الغربيين، فتقوم على أساس الاختلاف الموضوعي لسياق الاستقبال الاجتماعي عن السياق الذي أنتج العمل الأدبي في- إطاره. ومن ثم فإن استيعابه ابتداء من ذلك الاختلاف الموضوعي، وليس امتدادًا لرؤية الكاتب الأصلي في إطار ثقافته الاجتماعية الخاصة، يمكن أن يمثل عندي إضافة جوهرية للعمل الأدبي الأجنبي بفضل ما تتميز به الخصوصيات الاجتماعية الثقافية من تمايزات موضوعية على مستوى العالم، وليس فقط على مستوى عالمنا العربي، وإن كان الإعلام المعاصر بطابعه المتكيف مع آليات السوق العالمية يسعى لطمس تلك التمايزات لصالح عولمة مجردة بعيدة أشد ما يكون البعد عن حميمية الإحساس بالحياة.
***
* أستاذ مناهج البحث، ورئيس "الرابطة الدولية لدراسات التداخل الحضاري"- مصر
1- يتمثل في أزمة الدولار عام 1968، وأزمة عام 1971 التي تلتها أزمات 1973، و1974، وانهيارات أسواق المال في 1983، وأكتوبر 1987، ويناير 1991 في اليابان، وأزمة أغسطس 1990 التي تلت غزو العراق للكويت، وانهيار سوق المال الدولية على إثر موجة عارمة من المضاربات، ثم أزمة الاقتصاد المكسيكى في 1994، وأزمة اقتصاد جنوبي شرقي آسيا في 1996، و97، و1998، ثم أزمة البرازيل وسواها من بلاد أمريكا اللاتينية في 1999، وأزمة الاقتصاد التركي في العام نفسه، وهكذا دواليك.