♦ هدى مجيد المعدراني *
- نبذة عن البحث
"إنّ شعراء الماء هم الذين رأوا وتأملوا أشياء أهملتها حشود الأنهار الواسعة"([1]).
فيديريكو غارثيا لوركا (Federico García Lorca/ 1898 – 1936)
الأدب تجربة ذاتيّة إبداعيّة شعوريّة أو تأمليّة، يعيشها الشاعر نتيجة تفاعله مع مجتمعه أو عالمه، فتتشكّل رؤيا يشيّد منها هياكل قصيده وأعمدتها. وبما أنّ نتاج الشاعر عطاء لا ينضب، فإنّ قلاعه المشيّدة تتباين، لكن بما أنها ذات منبع واحد لا بدّ من أن يتجلّى في نصوصه "تردّد مستمرّ لفكرة ما، أو صورة ما، في ما يشبّه لازمة أساسية وجوهرية، تتّخذ شكل مبدأ تنظيمي ومحسوس أو ديناميكية داخلية، أو شيء ثابت، يسمح للعالم المصغّر بالتشكّل والامتداد"([2])، فيلحظ القارئ أنه "كثيرًا ما يحيا الموضوع في جميع أعمال الكاتب الواحد... وكأنما الأدباء لا يكتبون في نهاية المطاف سوى عمل أدبي واحد"([3]).
والشاعر اللبناني سلمان زين الدين الذي يعيش هاجس الوجود، والإنسان، والخلق، والتّكوين، ودورة الحياة، والموت والفناء والبقاء، تكشفه كتاباته، إذ "أين يوجد الكاتب حقًا وفي أوفر حقيقته إذا لم يوجد في كتبه؟"([4])، وتتكرّر هذه الموضوعات في مؤلفاته الشعرية، ويلحظها نقادٌ قرأوا دواوينه، فيقول الشاعر الناقد اللبناني عمر شبلي: "تتكرّر روحيّة المعتقد بذاتيّة حميمة في نتاجه (سلمان زين الدين) باستمرار"([5])، وترى الباحثة اللبنانية جنان بلوط أنّ "هواجس الوعي القلِق لديه (سلمان زين الدين) تمثلت في استكناه الوجود وكشف خفاياه، والمصير الذي سيكون عليه"([6]). وكأنّ سلمان زين الدين متقمص مبدأ أنّ "المبدع مهما تناثر من نايه من ألحان، فإنّ هذه الألحان تخرج من فوهة واحدة"([7])، فترسم عالم المبدع، وتكشف للقارئ تماسك أعماله الأدبية، وتُظهر ما بينها من صلات مكشوفة أو مستترة، فتتبدّى في إنتاجه "وحدة نغمية تشبه تلك التي تصدرها أوتار العود، وهي تهتزّ مباشرة مع علبتها الخشبية المقعّرة"([8]). وما هذا إلّا "وعي الذات لموضوعها... ووعيه (الإنسان) لذاته إنّما يتحدد بطريقته في إدراك العالم، وبعلاقته بالناس والأشياء"([9]). وقد كان للماء، لفظًا، وضميرًا، وحقلًا معجميًّا، دور في التعبير عن رؤيا سلمان زين الدّين إذ تواترت هذه المفردة، وشكّلت الكلمة الموضوع تارة، والكلمة المفتاح تارة أخرى، في معظم قصائده، وبالتّحديد في ديوانه الأخير "أحوال الماء"([10])، موضوع البحث في هذه الدراسة. فالدّيوان ديوان مائي بدءًا من العنوان "أحوال الماء" مرورًا بعناوين القصائد لفظًا أو رمزًا: "أحوال الماء – إبحار – سندباد – القمقم المرصود – شتاء..."، إلى مفردات القصائد كما في قصيدة "تعب" وغيرها... فيشعر القارئ بأنّ حال الكلمات هي حال الماء ينبجس من نبع، ليجري في نهر، ويصبّ في البحر، ويعوم فوق سطحه، فيتبخّر ويتجّمع في غيمة، ثم ينهمر مطرًا ليرسم دورة الماء، ودورة الحياة (أحوال الماء ص 11)، (شتاء، ص88)، مذكرات غيمة([11]).
إذًا فالماء موضوعة/ تيمة (Theme) تتكرّر في شعر زين الدّين مذ "أغرته ثلوج الصفحة البيضاء... فألقى جمرة الشعر، فذاب الثلج... وإذا الصفحة ميدانٌ لأعراس المداد"([12]). مدادٌ أخذ من الماء أحواله، ومقاماته، ليصوّر أحوال الشاعر، ومقاماته، فيعيش الصوفيّ حال توحّد مع الماء منذ انبجست تجربته من "ظلام النبع" بغية الوصول إلى "البحر الكبير" (إبحار، ص 14).
العمل الشعري تعبير عن أنا الشاعر وإدراكها للعالم، والشاعر زين الدين يعيش هاجس رحلة الإنسان في الحياة. والخيال عصب الكيان الشعري، والماء "من العناصر الشعريّة الأربعة"[13]، استخدمه الشاعر رمزًا منح قصائده رؤيا، انطلاقًا من إيمانه بالعلاقة بين الإنسان والطبيعة، والماء جزء أساسي فيها.
القارئ أمام تجربة شعريّة مرتبطة بذات الشاعر المفكّرة والحالمة، طرفاها الرئيسان الماء والإنسان. انطلق الشاعر في شعره من الماء إلى ما وراء الطبيعة، فربط بين رحلة الحياة ورحلة الماء الذي تجلّى في الديوان رمزًا يحمل تمظهرات أدبية وفكرية ودينية وفلسفية. لذا ارتأيت اختيار موضوعة/ تيمة الماء ودراستها في ديوان "أحوال الماء" نظرًا لتواتر هذا الحقل المعجمي بشكل لافت للانتباه في الديوان، ولأهمية الماء وقيمته وقدسيته الدّينية والشعبية.
تسعى هذه الدراسة إلى تقديم مقاربة موضوعية لإشكالية ثنائية العلاقة المتلازمة بين الإنسان والماء في شعر سلمان زين الدّين "أحوال الماء" أنموذجًا، وتحاول الإجابة عن الأسئلة الآتية: كيف تبدّت هذه الثنائية؟ ما هو الجوهر الذي ينطق به تكرار الماء، وكيف أبرز الحقل المعجمي للماء خيارات الشاعر؟ وهل أسهم هذا الموضوع "الــماء" فــــي التعبير عن خصوصية الكاتب، وتجسيد أفكاره وأحلامه وخيالاته؟
ولإنجاز هذه الدراسة وللإجابة عن الأسئلة المطروحة يعتمد البحث المنهج الموضوعاتي (Thematic)، ويبدأ بعملية إحصائية يرصد فيها تواتر موضوعة الماء في قصائد الديوان. يلي هذا إجراء تحليليّ ثم تركيبيّ، يبيّن الدلالة التي قدمها هذا التكرار، لتتكشّف علاقات الموضوعات بعضها ببعض، وروابطها وتوالدها، ثم ردّها كلها، إن كان بالإمكان، إلى مركز واحد، من دون إغفال العنوان لما له من دورٍ في كشف النصّ وإضاءته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق