♦ غنوة عباس نظام *
نبذة عن البحث:
بدأت دراسة اللّهجات العربيّة في العصر الحديث على أيدي بعض المستشرقين الذي قدموا إلى العالم العربي للبحث في أحواله وثقافته، وقد سعت دراسات هؤلاء إلى التعرّف على خصائص من جوانب اللهجات العربية، بهدف تضييق/توسيع الفجوة بين اللهجات واللغة العربية الفصحى. أما هذه الدراسة فتبحث بالتغيّرات الفونولوجيّة (Phonology) والمورفونيميّة (Morpheme) التي طرأت على اللهجة العامية "البيروتية" في لبنان، من ناحية وصفية، فتلحظ بنية بعض الظواهر الصوتية.
آمن العالم اللغوي السويسري فردينان دوسوسور (Ferdinand de Saussure/ 1857 – 1913) بضرورة دراسة اللّغة في ذاتها ومن أجل ذاتها، فاللّغة هي موضوع وظاهرة اجتماعيّة. وعامل لازم من عوامل الاتصال بين البشر، ولم تعد جودة اللغة وصلاحها يقاسان بالنظر إلى التقدّم أو التأخر في الزمن، والرقي أو التخلف في الحضارة، فليس هناك لغة أفضل من لغة ولا لهجة أفضل من لهجة، إذ اللّغة الجيدة هي تلك القادرة على القيام بوظائفها الاجتماعيّة في البيئة التي تستخدم فيها، حين تستجيب للتعبير عن تجارب أصحابها ومظاهر حياتهم، وتحقق الاتصال والتفاهم بينهم، وكلّ لغة تتوافق مع المستوى الاجتماعي الذي تُستعمل فيه، ومع النظام اللغوي الذي تعارف أهلها عليه هي مستوى لغوي جدير بالاحترام والملاحظة والدرس.
وقد شجع هذا كلّه عددًا من الباحثين على دراسة لهجات عربيّة محليّة بهدف اكتشاف نظامها وما فيها من خصائص في الأصوات والمفردات والتراكيب والدلالات، وإن كان كثير غيرهم يجد في ذلك غضاضة، بل نفورًا، مرده إلى الظن بأن في دراسة اللهجات ترسيخًا لها، وإغراءً بالنهوض بها حتّى يحلّ كلٌّ منها في موطنه محل العربيّة المشتركة.
ويبدو أنّ الذين يعارضون دراسة اللهجات إشفاقًا على العربيّة المشتركة، يلتبس عليهم الأمر في التفريق بين الدراسة والاستعمال الفعلي للغة، فقد فاتهم أنّ وجود اللغة المشتركة واللّهجات المحليّة جنبًا إلى جنب في اللغات، هو أمر تحتمه الضرورات الاجتماعيّة، وما تقتضيه من تفاوت في مستويات الاستعمال وحاجاته، فلكلّ لغة لهجتها، وليس لواحدة منها السيادة على الأخريات، إذ إن المجالات التي تستخدم فيها اللغة المشتركة تختلف عن تلك التي تختص بها اللهجات.
وقد أخضع اللّغويون المحدثون للدراسة عددًا غير قليل من اللهجات العربيّة، لكن أكثرها لا يزال ينتظر جهود الباحثين للكشف عن ظواهره وأسراره. كان المستشرقون سبّاقين في هذا المضمار، ثمّ لحق بهم الدارسون العرب الذين عزّ عليهم أن يبحث الأعاجم في تراثنا اللغوي. فمن ذلك دراسات للهجات المصريّة قام بها المستشرق الإيطالي "نلينو"[i] (Nallino)، و"الألماني "ليتمان"[ii] (Letman)، وأخرى في اللّهجات السوريّة قام بها الفرنسي "كانتينو[iii]"(Cantineau).
وقد خطت دراسة اللّهجات العربيّة خطوة أخرى إلى الأمام على أيدي المبعوثين العرب الذين أوفدوا إلى الجامعات الأوروبيّة والأمريكيّة لدراسة علم اللغة العام، وكان في طليعة هؤلاء الدكتور "إبراهيم أنيس"[iv]، والدكتور "تمام حسان"[v] والدكتور "عبد العزيز مطر"[vi].
أمّا الدراسات المتخصصة في اللّهجات اللّبنانيّة فما زالت تفتقر إلى دراسة علميّة خاصة بها، مما حفّزني إلى السعي نحو هذا الهدف قاصرة دراستي على مستويين اثنين من المستويات التي تتحلّل إليها بنية هذه اللّهجة: المستوى الفونولوجي، والمستوى المورفولوجي (Morphology)؛ فالفونيمات هي الوحدات الفونولوجيّة الصغرى، على حين أنّ المورفيمات هي الوحدات النحويّة الصغرى، ومن أنماط هذه الوحدات تُبنى جميع الصيغ اللغوية ابتداءً من الكلمة وانتهاءً بالنصّ الكلامي الكامل.
والمنهج الذي سرت عليه في دراسة اللّهجة هو المنهج الوصفي الذي يعتمد على استقرائها، ثمّ وصفها واستنباط القواعد التي تحكم سلوك عناصرها.
حدّد الباحث اللغوي المصري "إبراهيم أنيس "اللّهجة بأنها: "مجموعة من الصفات اللّغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة. وبيئة اللّهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل – هي اللغة – تضم لهجات عدّة، لكلّ منها خصائصها، ولكنّها تشترك جميعًا في مجموعة من الظواهر اللّغوية تيسر اتصال أفراد هذه البيئة بعضهم ببعض، وفهم ما قد يدور بينهم من حديث، فهمًا يتوقف على قدر الرابطة التي تربط بين هذه اللهجات"[vii].
فاللهجة شكل من أشكال الكلام المحلي، ولها صفات مميّزة تشكّل نظامها اللّغوي الخاص بها في الأصوات والصيغ والمفردات والتراكيب، وهي لغة قائمة برأسها ذات قواعد مستقلة عن تلك التي تحكم اللغة المشتركة، بل إنّ في قواعدها من الصرامة ما يبلغ حدًا يفوق في غالب الأحيان، ما نجده في اللغات المشتركة ذات قواعد مدوّنة في كتب النحو[viii].
إنّ دراسة اللهجة اللبنانيّة هي دراسة للخصائص المشتركة في صورها الكلاميّة المحليّة. وهي اللّهجة التي يستعملها أهلها في تصريف شؤون حياتهم العاديّة.
ويقصد بالتغيّرات الفونولوجيّة الصرف كلّ التغيّرات التي تصيب الأصوات عند انضمام بعضها إلى بعض في السياق، وقد وقع اختياري على دراسة ظواهر تدخل في إطار المماثلة بين الأصوات، وتلك هي: الإجهار، والإهماس، والتفخيم، والإدغام. وإنّما كان اختيار هذه الظواهر دون غيرها، لأنّها من أكثر الظواهر وضوحًا للسمع بالأذن المجرّدة، وهذا يناسب دراسة لم يتح لها أن تعتمد على الأجهزة الصوتيّة الآليّة. وهناك نوع آخر من التغيّرات التي تصيب الصيغ المورفولوجية جراء عوامل صوتيّة تعرض لها في السياق، وتوصف هذه التغيّرات بأنها مورفونيميّة.
***
* دكتورة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية
[i] كارلو نلينو: هو مستشرق إيطالي. لغوي، وفلكي، ومؤرخ وجغرافي. له اهتمام واسع بالدراسات العربيّة.
[ii] إينوليتمان: هو مستشرق ألماني ألّف بالعربيّة كتبًا منها: "قصص في اللغة العربيّة الدارجة.
[iii] جان كانتينو: هو مستشرق فرنسي، عيّن عضوًا في المعهد الفرنسي بدمشق. اهتم باللهجات ولاسيما لهجات بادية الشام.
[iv] إبراهيم أنيس: باحث لغوي مصري، رائد الدراسات اللغويّة العربيّة، تزخر المجلات العربية ببحوثه ومقالاته اللغويّة.
[v] تمام حسان: عالم نحوي مصري، أول مَن استنبط موازين التنغيم وقواعد النبر في اللغة العربيّة.
[vi] عبد العزيز مطر: هو لغوي مصري، وعضو في مجمع اللغة العربيّة. عمل مدرسًا في جامعة الكويت، ثمّ في جامعة قطر.
[vii] إبراهيم أنيس، في اللهجات العربيّة، لجنة البيان العربي، ط.2، 1952، ص 13.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق