إيفا أبي فاضل * ومحمّد عارف طربيه **
Critical thinking: For our schools to be a bridge to the next century
- Dr. Eva ABI FADEL * - Mohamad Aref Tarabay **
مستخلص - Abstract
في عالم تخطّى فيه اقتصاد المعرفة كلّ التوقعات، وفاقت ميزانيته كل الميزانيات، وبات كمّ المعرفة المنتَجة فيه يحتاج منّا عقودًا كي نهضمه ونستوعبه، لا بدّ لنا من وقفة تأمل في ظلّ هذه الأحداث المتسارعة، لنعيَ خلالها أن سرّ التقدم وبناء الحضارة لم يعد بإنتاج تلك المعرفة فحسب، بل بات يكمن كما يرى الكاتب المصري محمد عبد الرحيم عدس (1987) في كيفية إدارتها عبر تحليلها ثم تقويمها لإعادة تركيبها فاستثمارها بما يخلق منها واقعًا جديدًا لحياة أفضل.
إن إدارة المعرفة واستثمارها يحتاجان إلى مهارات فكرية عليا، أيّ يحتاجان إلى التحليل ثم التقويم ثم الابداع بحسب تصنيف "بلوم" المعدّل للمجال المعرفي، لذلك فإن أساس أيّ مجتمع حضاري يقوم على تعليم أبنائه تلك المهارات الفكرية المتقدّمة كما يذكر الكاتب المصري زيتون (1999) والتي باتت في عصرنا هدفًا من أهداف المدرسة الحديثة التي لم يعد دورها محصورًا في نقل المعلومات كما كان سابقًا بل انتقل في الدول الحضارية للعمل على تعليم التفكير، إضافة إلى تمليك المهارات وغرس القيم، وهذا ما بات يظهر جليًا في الحديث العالمي عن مهارات القرن الحادي والعشرين اللازمة لأي فرد كما يشير الباحثان التربويان ترلينج وفادل (2009/2013) ليجد هذا الفرد مكانًا له في القرن المقبل ويشارك بفعالية في ركب الحضارة.
في هذا العالم الذي بات الثابت الوحيد فيه هو التغيير، لم يعد للشهادات الورقية قيمة ما لم تقترن بمهارات أساسية، وملكات ضرورية تسمح لصاحبها بلعب دور إيجابي على الصعيدين الفردي والاجتماعي، حيث أن تمليك هذه المهارات بات هدفًا رئيسًا وأولوية طارئة للمؤسسات التربوية الحديثة التي تسعى إلى تخريج طلاب يشكلون أعضاءً ناجحين في حياتهم، فاعلين في مجتمعهم، متمكِّنين من حلّ المشكلات، واتخاذ القرارات، وإصدار الأحكام، وإنتاج الأفكار الإبداعية وغير ذلك من لوازم القرن الحادي والعشرين، وعلى رأس هذه المهارات تأتي "التاءات الأربع" وهي: التفكير الناقد، التفكير الإبداعي، التعاون والتواصل، لكننا سنحصر الحديث في هذا المقال بالتفكير الناقد الذي يمكن وصفه بأنه جسر العبور إلى القرن المقبل، ويعود السبب في ذلك إلى أن امتلاك هذه المهارة هي نتيجة حتمية لامتلاك مهارات التفكير العليا للمجال المعرفي نقصد بها التحليل والتقويم والإبداع. إنّ ما دفعنا لذكر سلّم "بلوم" هو حاجتنا لاسقاطاته على أرض واقعنا اللبناني خاصة، حيث أننا بأمس الحاجة للخروج من قمقم التنميط الذي يتم تنشئة أجيالنا عليه داخل غالبية صفوفنا إلى عالم الابداع، وأقصد به الخروج من سجن التقليد الأعمى إنْ على الصعيد المعرفي أو السلوكي أو القِيَمي إلى فضاء الإبداع والابتكار وتخليق الواقع بما يغيّره لينتج منه واقعًا أفضل، كذلك الخروج من سجن المشكلة ذاتها والحديث الدائم عنها والشكوى من عوارضها إلى التفكير في حلّها والتخلّص منها عبر الدرجات الثلاث العليا: تحليلها، اقتراح حلول لها ثم تقويم الحل المختار، ولا يتم ذلك إلا إذا حوّلنا مدارسنا ليس إلى مصانع تخرّج المنتج نفسه أي نسخًا متكررة من التلميذ ذاته، بل إلى شركات تنقيبٍ تبحث عن نقاط القوة في كل تلميذٍ من تلامذتها لتعمل على تقويتها وتعزيزها في الوقت نفسه الذي تعمل فيه على معالجة الثغرات الموجودة لديه، أي عبر تحويل دروسها التقليدية التي تركِّز على مهارة واحدة هي الحفظ أو الاستذكار، لتتجه صعودًا باستخدام سلّم "بلوم" وصولًا إلى عقلٍ ناقدٍ لا يرضى بالواقع أو بما يُقال له ولا يرضى بأن يكون مستهلكًا لكل شيء حتى للأفكار بل ممحصًّا ومدقِّقًا فيها وأكثر من ذلك صانعًا لها.
إن كمّ المعرفة التي يتم إنتاجها في كل دقيقة حول العالم، جعل من العصر الذي نعيش فيه متخمًا بها حدّ عدم القدرة على هضمها إلا بعد سنين عديدة، لذلك أمست الحاجة ملحّةً للتأكّد من صحّتها، أي أمست الحاجة ملحّةً لامتلاك غربالٍ فكريٍّ يسمح للفرد بتصفيتها لإزالة الشوائب واستخلاص الصافي منها، وهذا الغربال هو التفكير الناقد. وهنا يتجدّد التركيز على دور المدرسة في إعداد التلميذ الذي يمتلك هذا الغربال الذي يخوِّله إصدار الأحكام على تلك المعرفة بناء على حقائق معينة من دون تحيّز، ليس بهدف الحكم عليها فحسب، بل بهدف أكبر وأهم وهو كيفية استثمارها من أجل حياة أفضل له ولمن حوله.
إن هذا الواقع الجديد الذي أصبح يفرض نفسه بقوة على التمدرس يحتِّم علينا أن نبدأ بإيلاء مهارات التفكير العليا حيِّزًا كبيرًا من اهتمامنا في تعليمنا لمقرراتنا في صفوفنا، والعمل على نفض الغبار عن عملية التعليب والتنميط التي تحدث داخل صفوفنا والتي تخرِّج ما يشبه صفوف النمل من النسخ البشرية، حيث أصبح لزامًا علينا القيام بنقلة تعليمية نوعية لاستخراج وتطوير أفضل ما يوجد داخل كل عقل من عقول تلاميذنا، فنكون بذلك نجهِّزهم فعلًا للمشاركة بفعالية في القرن المقبل.
يتم تقديم العديد من المواد الدراسية للتلاميذ في المدرسة، لكن مواد العلوم من بين المقررات الدراسية الأخرى تكتسب خاصية محددة في تعليمها، حيث يجب على المعلمين تخليقها في وضعيات تسمح للمتعلم بأن يبني تعلّمه بنفسه عبر مشاركته هو وليس المعلم في الوصول إلى الأهداف التربوية المنشودة.
غير أنه لا تتمّ مراعاة تلك الخاصية في أغلبيّة المدارس، فنلاحظ أنها تدرّس بطريقة نظرية بعكس ما يجب أن تكون عليه مما يثقل كاهل المتعلم لناحية فهمها والتعامل معها (عبد الكاظم، 2013)، علمًا أن تلك المواد العلمية يمكن تسخيرها واستثمارها بشكل كبير لتعليم التفكير وخاصة الناقد منه. لذا، نجد أنّه قد آن الاوان لتوسيع آفاق تعليم الموادّ العلميّة، ودفع المتعلّمين الى ممارسة التفكير بجميع أنماطه ومستوياته خصوصًا في ظلّ مجتمع متغيّر يتطلّب تكيّفًا وتعايشًا مع متطلبات العصر والتمييز بين ما يضرّ وما ينفع.
وهذا ما دفعنا للبحث في موضوع تنمية التفكير الناقد لدى التلاميذ عبر إثراء مناهج المواد العلمية المقدمة لهم والتي تحمل بين طياتها المهارات العليا للتفكير أي بذور النجاح لأبنائنا في القرن المقبل.
الكلمات المفتاحية: التعليم، المدرسة اللبنانية، نظريات التعليم، منهج العلوم، التعليم الإلكتروني
Keywords: education, Lebanese school, educational theories, science curriculum, e-learning
***
* باحثة لبنانية. دكتورة في كلية التربية (الفرع الثاني والعمادة) – الجامعة اللبنانية- خريجة جامعة ليون (فرنسا)، قسم أصول التربية والإعداد والتدريب - مستشارة تربوية للتطور الثقافي والعلمي في جامعة ليون (فرنسا).
* Lebanese researcher. Doctor in the Faculty of Education (Second Branch and Deanship) - Lebanese University - Graduate of the University of Lyon (France), Department of Pedagogy, Preparation and Training - Educational consultant for cultural and scientific development at the University of Lyon (France).
** باحث لبناني. مدرب في المركز التربوي للبحوث والإنماء.
** Lebanese researcher. Trainer at the Educational Center for Research and Development.
المراجع
- العربية
· إبراهيم، عبد الله علي (2010). أثر استخدام مهارات التفكير الناقد على اكتساب المفاهيم النحويّة لطالبات الصّفّ الرّابع العلمي. مجلّة التربية والعلم. 18 (3). 297-331.
· أبو جادو، صالح محمد علي (2008). علم النفس التربوي، عمان، الاردن: الدار المسيرة.
· أبو زيد، عبد الباقي عبد المنعم (2006). أثر تكنولوجيا الاتصالات على نوعيّة التعليم ومجالات العمل في الألفيّة الثالثة والمتطلّبات التعليميّة للاستعداد لها. دراسة ميدانيّة. المؤتمر الدولي الاول للتعليم الالكتروني الذي ينظمه مركز التعليم الالكتروني بجامعة البحرين: المنامة - البحرين.
· ألحدابي، داوود عبد الملك والأشول، ألطاف أحمد محمّد (2012). مدى توافر بعض مهارات التفكير الناقد لدى الطلبة الموهوبين في المرحلة الثانويّة بمدينتي صنعاء وتعز.المجلّة العربيّة لتطوير التفوّق. (5). 1- 26.
· ألحيلة، محمد محمود (2002). طرائق التدريس واستراتيجيّاته. الامارات العربيّة المتّحدة، العين: دار الكتاب الجامعي.
· ترلينج، ب. وفادل، ت. (2009). مهارات القرن الحادي والعشرين، (ترجمة بدر الصالح). الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية. (العمل الأصلي نشر في عام 2009).
· زيتون، عايش محمود. (1999). أساليب تدريس العلوم. عمان: دار الشروق.
· زيتون، حسن حسين (2003). استراتيجيات التدريس. رؤية معاصرة لطرق التعليم والتعلم. القاهرة: عالم الكتاب.
· عبد العاطي، حسن الباتع محمد (2008). التفكير الناقد في عصر المعلوماتيّة. دراسات المعلومات. (2). 149- 180.
· عبد الكاظم، جمال نصر. (2013). أثر برنامج رايبسك RISK في التحصيل وتنمية التفكير الناقد. مجلة كلية التربية الأساسية، العراق، السنة (2014)، العدد (16)، ص 41.
· عدس، محمد عبد الرحيم. (1987). أنماط التفكير وتحسين نوعية التعلم والتعليم. مجلة الخفجي، السعودية، السنة (17)، العدد (8)، ص ص 10-11.
· عوّاد، وائل عبد الفتاح (2008). فاعلية استخدام أسلوب التعلم التعاوني في اكساب المفاهيم العلمية وتنمية مهارات التفكير الناقد لدى طلّاب المرحلة الاعداديّة.رسالة ماجيستير غير منشورة، جامعة الزقازيق: مصر.
- الأجنبية
· Boisvert, J. (1999). La formation de la pensée critique. Théorie et pratique. Saint-Laurent : Editions du Renouveau pédagogique, collection «L’école en mouvement».
· Jonnaert, P. (2002). Compétences et socioconstructivisme. Bruxelles : De Boeck.
· Parker, W. (1991). Achieving thinking and decision-making objectives in social studies, in Shaver, J. (dir.), Handbook of research on social studies teaching and learning. Toronto: Collier Macmillan.
· Willingham, D-T (2007). La pensée critique. Pourquoi est-elle si difficile ὰ enseigner. American Educator.
الحداثة (Al Hadatha) – ع. 193/194 - س. 25 - صيف Summer 2018
ISSN: 2790-1785
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق