سهيل فرح *
فلنتأمل مليًّا في منظومة قيم الإنسان الحضارية على امتداد كوكبنا، فلا نشعر إلا بحالة من القلق الشديد على علاقتها بحاضرها ومستقبلها. وهذا ينطبق على ثلاثي منظومات القيم: الليبرالية وكل متفرعات ما بعد الحداثة؛ والاشتراكية الكلاسيكية وبعض مشتقاتها المعاصرة؛ والمنظومة الدينية بكل تجلياتها من جماعة أهل الكتَاب ومن خارجها.
لهذا القلق الوجودي مسبباته المادية والروحية الكثيرة التي تستدعي سيلان حبر غزير للاقتراب من إدراك مجمل مسبباته ونتائجه علّها تشفي ولو قطرة من غليل الضرورات الملحة لملء البياض الذي لا ينتهي من صفحات يوميات الحياة… والمهم لا بل الجوهري في هذا السياق، هو محاولة الإجابة عن السؤال المصيري الذي يطرحه معظم بني الإنسان القاطنين على هذا الكوكب المعذب والممثل بكلمتين مكررتين: إلى اين؟ ما مصيرنا؟
هذا السؤال الأصعب في حياة كل منّا يستدعي بلا شك تضافر، لا بل استنفار كل الطاقات المفكرة لدى الليبراليين واليساريين وممثلي المؤسسات الدينية والعلمانية، وكل الذوات المفكرة في العلوم الإنسانية والطبيعية ومعهم كل طاقة إنسانية تتميز بالتفكير التحليلي النقدي من العامة والخاصة. ولعل الجميع من أهل العدل والحكمة يطمح إلى التخلص من الخلايا الهرمة في المنظومات الأكسيولوجية الثلاث التي أتينا على ذكرها في البداية، والعمل على تفعيل الدورة الإيجابية البناءة في كل منظومة باتجاه مدّ جسور عقلانية بين ايجابياتها.
هذا يتطلب إشغال العقل الموسوعي النووسفيري الحكيم في خيارات حضارية أمثل، علّها ترجح الولوج في عصر الخيارات التفاؤلية لتكون بديلًا حقيقيا لموجة خطابات "النهايات" التي يروج لها المتشائمون من حملة قيم المنظومات الثلاث: نهاية التاريخ، نهاية العالم، نهاية الله، نهاية معنى الحياة، نهاية الإنسان.
في هذا السياق لدي بعض الخواطر أو التأملات المتشائمة أردت من خلالها أن أتبادل الرأي والنصيحة حولها مع ثقافة عين القارئ المعني والمتتبع في هذه المجلة وغيرها، وأخص بالإشارة تحديدًا، أولئك الذين تراودهم أيضًا موجات القلق نفسها.
في البداية سأسعى وباختصار شديد، لتشخيص الداء المتواجد في المنطقة المعتمة لكل مجموعة متمركزة "أنانية" منغلقة على نفسها. يحدوني من بعد ذلك أمل، وإن لم يكن مداه شديد التفاؤل، بأن يستنفر أخيرًا العقل الإنساني الخير كل طاقاته الإيجابية من أجل إيجاد الحلول التي تخرجه من دوامة القلق الوجودي، وتدخله في تحديات جديدة لولادة بدائل حضارية أكثر عدلا، ولنهج منظومة قيم أكثر جمالًا وأخلاقية ومحبة. سأسعى – وينتابني حذّر شديد – لتقديم خواطر تهدف للخوض في غمار لا بل مغامرة البحث والاستشراف في عالم يوم وغد هذه القيم. وألخصها باثني عشر.
الأول: يتوجب الاعتراف بأن ضياع إنسان اليوم في معظم أصقاع المعمورة، مرده إلى فقدان بوصلة الأمان المادي والروحي على حاضره ومستقبله.
الثاني: متصل عضويًّا بالأول، الإقرار بان فقدان بوصلة الأمان هذه سببها الأساسي شحّ العطاء الايجابي البناء التي لم تعد تؤمنه لبني البشر في الواقع لا المنظومة الليبرالية بموروثها الحداثوي الكلاسيكي والمعاصر، ولا ما اصطلح على تسميته بـ"عصر ما بعد الحداثة"، وهذا ينطبق أيضًا على حملة الخطابات الاشتراكية الكلاسيكية والمعاصرة، وعلى حماة النصوص والمؤسسات الدينية. هذه حقيقة لا يمكن أن تتعامى عنها أي بصيرة إنسانية عادلة.
الثالث: هذه الخلايا الهرمة التي فتكت في أفكار وسلوكيات هذه المنظومات الثلاث لا تبرر استمرار الحرب الشاملة الهجومية أو حتى الدفاعية التي تخوضها على أكثر من جبهة كل منظومة ضد زميلتها. فكل منظومة مهما ادعت بأنها تعمل من أجل ادخال الطمأنينة المادية والنفسية والعقلية وحتى الروحية لبني الجنس البشري الواحد على هذا الكوكب، مدعية أن مفتاح بوصلة الحقيقة بيدها، والنتيجة الملموسة المرئية، المزيد من استعار حدة الصراع العبثي-الجنوني بين المنتمين إلى هذه المنظومة أو تلك.
الرابع: إن رضوخ البشر للعبة الصراع الجهنمية التي يعدّها الكثيرون بأنها أزلية لا بديل منها بين مفاهيم أو صور "لملاك وشيطان"، "رأسمالي وبروليتاري"، "ديموقراطي وغير ديموقراطي"، "عقلية غربية وعقلية شرقية"، "متدين وعلماني"، وغيرها الكثير من "الثنائيات القاتلة"، تلك التي لا ترى إلا الأسود عند الآخر والأبيض عندها، كل هذه الثنائيات لا تؤدي إلا لتحصن صاحبها ضمن أسوار عقيدته ومنظومته الدوغماتية المغلقة الواحدة. وهي بهذا توصد أبواب الحوار العقلاني، وتهمش التواصل الإنساني الخلاق، وتضع حواجز عالية منعًا لتلاقي وتفاعل وتعاون مناطق التناضح الحضاري الخيرة والاستفادة من نقاط القوة عند كل طرف.
الخامس: إن خطر إملاء النمط الاقتصادي والثقافي الواحد لدى "المعولمين الأقوياء"، يقابله خطر الخردقة في سراديب "الغيتوات" الضيقة للهويات القومية والثقافية والمذهبية. فكما أن مظاهر العتمة وضيق الرؤيا صاحبت وتصاحب كل أنواع التوتاليتارية الشمولية للخطابات النيوليبرالية والشيوعية السابقة، كذلك يهيمن على حملة الهويات الضيقة ومعها المروجون للرسالات الدينية المطعمة بروح تبني "الحقائق المطلقة"، شبح المشاركة عن وعي أو غير وعي بتلك اللعبة الجهنمية المقيتة المستقاة من مناطق التعصب والمؤدية في ظل مناخ غياب الثقافة والممارسة الروحانية المتسامية والشاملة إلى الركون لاسترخاء السكينة النفسية والكسل الروحاني على مستوى مناخاتها الداخلية. فهي باطنيًّا وحتى سلوكيًّا لا تؤمن بظاهرة التنوع والتعدد والتمايز. وهي تعيد اختلاق أجواء تربوية وسلوكية داخلية لا تؤدي إلا إلى المزيد من الانغلاق على الذات ليس الثقافية أو الدينية فحسب، بل المذهبية والجهوية أيضًا. وتؤدي عند البعض، وهم ليس بالقلة، ليس لإقفال مرصد لباب التعايش السلمي – الإنساني معه فحسب، بل إلى إشعال الطاقات العصبية الغضبية الدموية لدي اتباعها. والجميع من حملة "الدوغماتيات المغلقة" على اختلاف مصادرهم ومسالكهم يشعلون مراجل الحطب التي تحرق الأخضر واليابس في أجساد البشر ونفوسهم وأرواحهم.
السادس: إن غياب المقاربة الأنثربولوجية العقلانية الهادئة ذات النزعة الإنسانية المتكافئة لمقاربة عقلانية هادئة لكل ما تفرزه الطاقة الفيزيولوجية والنفسية والعقلية والروحية بجوانب انتعاشها وهوانها هو الذي يخلق "الأنانيات – النرجسية السيئة" للأفراد والجماعات، وهو الذي يؤسس لـ"الرؤى المركزية" الأحادية الجانب لكل طرف سواء حمل طابعًا جغرافيًّا – حضاريًّا أوروبيًّا أو غربيًّا، آسيويًّا أو دينيًّا، أو حتى عقائديًّا حزبيًّا. فمن كل تلك المناخات النتنة المريضة تفوح كل موجات الاستعلاء الفارغ والتمييز التي تدعي بتفوق أو تدني هذا العرق أو الثقافة أو الحضارة أو حتى الدين والخيار الروحي، والكل يتعامى عن حقيقة أنثربولوجية بشرية بسيطة عنوانها بأننا نحن بني الإنسان الواحد.
السابع: لعل الجنس البشري ما زال في طور تغليب "الحيوانية الغرائزية" في أفعاله على تمثل وتطبيق المشاريع الإنسانية الخيرة للجميع… في مجمل سلوكياته تتحكم غريزة الصراع من أجل البقاء، ومن هنا نرى أن العقيدة الداروينية الاجتماعية هي السائدة وبها يتمثل بشكل فاقع المبدأ العبثي "البقاء للأقوى"، وهو- هو نفسه الذي يسكن بقوة في عقول صانعي السياسات والمجمعات العسكرية، وراسمي البرامج الجيوسياسية ووزارات الحرب والمال والصناعة، ولا نلمس هذا عند الكبار على تباين مواقعهم ومواقفهم فحسب، بل عند الصغار أيضًا. من هنا نلمس التفريخ المتواصل لكل أنواع المشاحنات والنزاعات والحروب التي تفتك بجسد ونفس الأكثرية الساحقة من سكان هذا الكوكب المعذب.
الثامن: لم تتوفر حتى اللحظة الحكمة الوجودية المرتكزة على الفلسفة الوسطية الذهبية التي تقرّ بأن مساحات السلام والعدوانية، الانفتاح والانغلاق، النور والظلمة متواجدة، بنِسَب متفاوتة طبعًا، لدى كل الناس. والتحدي عند الجميع يكمن بكيفية التغلب على كل فوران العدوان، وسجون الانغلاق وعتمات الظلمة. ولم تنجح أي محاولة دينية أو دنيوية أي كان خطاب صاحبها، ما لم يبدأها الإنسان بنفسه، ما لم يشرّع كل أسارير عقله وقلبه وروحه لكل مجالات ورحاب السلام والحرية وحكمة كل المعارف والتجارب البناءة الإيجابية للأنا والآخر الحضارية.
التاسع: كل الذي يجري معنا ومن حولنا لا يوحي إلا بالمزيد من الدمار والقهر والظلم وإشعال كل أنواع الحروب الاقتصادية والتجارية والإعلامية- النفسية والدينية. وبالتالي ضخ آلة الدمار بكل أنواع القوة الرعناء للتقنيات العسكرية والسباق الجهنمي العبثي على التسلّح دون الاكتراث بأقدس مخلوقات الله على هذا الكوكب الفاقد توازنه، دون الالتفات إلى المنطقة الأكسيولوجية الأكثر خلودية في الشخصية الإنسانية، دون تشغيل منطقة الحوار العقلاني واستنفار الطاقات البناءة من أجل توسيع وتعميق إرادة الشراكة والتعاون الخلاق بين الحضارات. في هذا المناخ الموتور غربًا وشرقًا تبدو الجماعة من أمثالنا مهمشين- حالمين وكأنهم منبوذون يأتون إلينا من كوكب آخر.
العاشر: لا ينهض عالمنا من كبوة أزماته العضوية الإيكولوجية والديموغرافية والمالية والجيوسياسية والقيموية – الأكسيولوجية ما لم يعلِ من شأن ثقافة الحوار والشراكة الفعلية المنتجة والبناءة والمفيدة في كل المجالات وعلى كل المستويات وبشكل متكافئ لجميع بني البشر بلا استثناء. ولا تفلح الحقائق العلمية ما لم تعتمد على المقاربة التكاملية العلمية البناءة والمنهجية التعددية وإدارة التنوع الثقافي بعين إنسانية شاملة.
الأحد عشر: تبقى أوركسترا حضارة الإنسان المعاصر تعزف بأصوات نشاز تؤذي ثقافة الأذن وتوسع من مساحة التصحر في الروح الإنسانية، ما لم تشتغل كل مجموعة على نفسها من أجل إعلاء الجانب الاكسيولوجي والعقلاني والإنساني العام في شخصيتها الذهنية والعملية. وأقصد بذلك المجموعات الست الأساسية للحضارات القائمة على القارات الخمس لكوكبنا وتحديدًا الأوروبية والأميركية والروسية – الأوراسية والهندو- صينية والإسلامية والأوقيانية.
الاثنا عشر: البشرية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار والهلاك من خلال الانعاش الدائم للأمراض الفتاكة التي تفرزها الأنانيات المتنوعة المعاني والممارسات المفرطة في نرجسيتها لدى الأفراد والجماعات، تلك المتجذرة في ذهن وسلوك الحكّام والمحكومين، لدى الأقوياء والضعفاء. وإما الخيار الذي يعطي أملًا حقيقيًّا باستمرار الحضارة الإنسانية العادلة على الأرض من خلال يقظة العقل النووسفيري الحكيم الطامح على كل مستويات القول والفعل في كل مجالات الحياة إلى استنهاض واستمرار التربية اليومية للعقل والنفس والسلوك من أجل تمثل وتبني وتجسد القيم الإنسانية والسماوية المشتركة واختصرها بثلاث: الحقيقة والخير والجمال.
الحقيقة التي يتقبلها الجميع تأتي من خلال حكمة العقل العلمي البناء والمنفتح على كل أسرار وأنوار السماء. والخير يتمثل من خلال تبني وتمثل كل قيم الأخلاق المتسامية للبشر. والجمال، بالمعنى الدوستويوفسكي له الذي لا يتمثل إلا من خلال العمل الدائم على مستوى الفرد والجماعة لتكون ثقافة اللسان ودفء عاطفة القلب ومحبته وأرجحية حكمة العقل حاضرة دائمًا؛ بدءًا من أدق تفاصل يومياتنا وحتى اتخاذ أكثر القرارات مصيرية في حياتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق