♦ صونيا شديد غانم *
نبذة عن البحث
مرّت لفظة "الأدب" بالعديد من التّطوّرات خلال العصور، بدءًا من الجاهليّة حتّى العصر الحاضر، وذلك مزامنةً مع تطوّر الحياة العربيّة وأنواع الآداب. ويُعَرَّف "الأدب" أنّه الظُّرف وحسن التّناول وما يُحتَرَز بِهِ من جميعِ الأخطاء، وتأدّبَ أي تَعَلّمَ الأدبَ وتَهَذَّبَ؛ وتقع الآداب على العلوم والمعارف، وعِلم الأدب هو علمٌ في كلامِ العرَب لفظًا وكتابةً، وقيلَ كلمة "اَدب" مأخوذة من لفظة "مأدبة"، فُلانٌ يَأدِبُ أَدْبًا دَعاهُ إلى طعامِه؛[i] فكما قال الشّاعر "طرفة بن العبد" في الشّطر الثّاني من بيتٍ شعريٍّ له:
"لا ترى الآدبَ فينا ينتقِر"[ii]
أي: لا ترى مَن يدعو إلى الطّعام، يُطعِم أحدًا ويستثني آخر؛ "وقيل إنّ مفرد كلمة الآداب هو الدّأب وبعدها قُلِبَت إلى آداب، وفي صدر الإسلام توسّعت دلالتُها لتشمل "التّهذيب والتّربية".[iii]
في العصر الأمويّ ارتبطت بدراسة كتاب الله، والأحاديث النّبويّة، والتّاريخ والفقه، والشّعر، والنّثر الفنيّ، والنّوادر والأمثال، وعلوم البلاغة، واللّغة والنّحو، وكلّ ضروب المعرفة،[iv] إلى أنّ دلّت على التّمدّن والرّهافة واللّياقة على خلاف الفظاظة البدويّة، وعلى الثّقافة الّتي كانَ يُعَبَّر عنها قديمًا بكلمة "أدب"، كذلك الوظائِف الاجتماعيّة والإداريّة، وكان ذلك في العصر العبّاسيّ؛ إلى أن انتهت كلمة "أدب" في الوقت الرّاهن إلى الدّلالة على الكلام المُتقَن بلاغيًّا.[v]
وقد عرّف "الأدب" المؤرّخ والفيلسوف "ابن خلدون": "أنّه "فكر الأمّة الموروث الّذي يعبّر عنه الكاتب بلغة رفيعة، فينقل بشفافية هذا الموروث الاجتماعيّ، والسّياسيّ، والاقتصاديّ، والفكريّ، والحضاريّ... ويضمّ المعرفة الدّينيّة وغير الدّينيّة".[vi] أمّا "ابن قتيبة" فيجد أنّ الأدب يتناول السّنَن السّلوكيّة الّتي وجبَ مراعاتها عند فئة معيّنة من النّاس.[vii]
ب- تحديد الموضوع وكيفيّة معالجته
يعالج البحث مفهوم "الأدب" في كتاب "العقد الفريد" لِـ"ابن عبد ربِّه"، ساعيًا إلى رصد هذه الكلمة لتقديم شرحها وفهمِها، وبذلك نحدّد إن كانَ الأدبُ أدبَ محامِد ومسألة خلقيّة، أم أدب ثقافة وشعر وبلاغةٍ، أم أدب ظُرفٍ، أم هو مسألة نستشِفّ منها ناحية مهنيّة، عِلميّة، دينيّة، تربويّة، سياسيّة، قضائيّة...؟ مِن ثَمَّ نقيم دراسة داخليّة تقتصِر على ما يرمي إليه "الأدب" في نصوصِ "العقد الفريد"، فَنحلِّل ونفكِّك، ثمّ نستخرج العناصر، ونردّ كلّ مفردة إلى نَديدِها. وبعد استجماع العناصر والحقول المعجميّة، وربطِ بعضها ببعضه الآخَر، نقوم بعمليّة مقاربة ومعارضة، ونظهرر دلالة "الأدب" بحسب السّياق.
ج- الإشكاليّة
إنّ الإشكاليّة على علاقة مباشرة بِموضوع البحث وهدفه الّلذين يُصَنَّفان ضمن إطار إبراز هويّة الأدب في كتاب "ابن عبد ربّه"، وماهيّة أسباب تقديمه الأدب بهذه الطّريقة، وإلى مَن يتوجّه به، وذلك ضمن إطار مساحة التّوسّع في البحث، فيتفرّع من الموضوع عدّة إشكاليّات:
- ما العلائق الّتي تُسهِم في نَسج تأسيس مفردات الأدب وأفقه، لتبرز هويّته من خلال تلك المفردات؟
- كيف نستخرج المفردات من ضبابيّتِها لإحصائِها وتصنيف خانتِها وصنفها الأدبيّ؟ وكيف تتجلّى أبعادها في أسلوب الكاتب، انطلاقًا من المقاربات بينها وبين غيرها من المفردات؟
- كيف يُمكن أن تُبرِز وظيفة المفردات وقيمتها؟ وأين تكمن الرّسالة فيها وإلى مَن تُوَجَّه؟
- إلى أيّ حدّ يمكن اتّخاذ اللّغة والأدب سلاحًا للتّعبير بحريّة عن مكنوناتِ الكاتب؟ وكيفَ تُبيِّن المفردات أسلوب المؤلِّف وحال مَن يتوجّه إليهم بِها؟ هل يصفُهم بكلمات راقية وإيجابيّة أم يحطّ من قدرِهم بطريقةٍ سلبيّة؟
- هل تختلف طبيعة أدب "ابن عبد ربّه" عن سواه من المؤلِّفين؟ وكيف يؤثّر أسلوبه على إبراز المعنى والجماليّة والدّلالة؟
د- المنهج المتّبع
إنّ دراسةَ أيِّ نصٍّ لاكتشافِ مضمونِه واستكناه خباياه، بخاصّةٍ مثلَ الأدب، تبقى دراستُه قاصرةً عن الإحاطة بكلّ المعاني، وذلك نتيجة الرّؤى المتعدّدة لكلّ ناقد. وعِبرَ اتّباعِ خطواتِ المنهجِ الأسلوبيّ (La Stylistique) نستطيعُ الولوجَ إلى البِنى العمقيّة، بِكشف المستويات الأربعة: الصّوتيّ، المعجميّ، التّركيبيّ، والبلاغيّ، وبهذا نكون قد استخرجنا "البنية الدّلاليّة الصّغرى" (Micro Structure Sémantique) على أنّنا لن نستطيع معالجة كلّ المستويّات نظرًا إلى قصر البحث والالتزام بعدد الصّفحات المطلوبة، والسّبب الأبرز هو احتواء "العقد الفريد" على أقسام كثيرة تتطلّب بحثًا طويلًا وليس قصيرًا أو متوسّطًا. ولو بحثنا عن معنى أو ترجمة "الأسلوب" في الفرنسيّة لوجدنا معناه: "مبحثُ أساليب الكتابة"، والفعل "أسْلَبَ" (Styliser): رَسَمَ بطريقةٍ تزيينيّةٍ منمّقة، نَمْنَمَ وانتحى أسلوبًا في الفَنّ وأخضَعَهُ لهُ، والاسم "Styliste": كاتبٌ أنيقُ الأسلوب".
لذا دَعَتِ الحاجةُ إلى اتّباعِ المِنهج الأسلوبيّ الّذي يتفرّع من علم الدّلالة، واستخراج المستويات وجدولتِها ضمن الأسلوبيّة الإحصائيّة، لكن كلّ ذلك ومن دون ذكر دلالات المستويات، لا يفي وحده بالغرض، فاستخراج دلالة المفردات والحقول المعجميّة، يضع النّصَّ تحتَ المِجهرِ ويُخضِعَ النّصوص لِسبرِ الأغوارِ، في كتاب "ابن عبد ربّه"، وبهذا نكون قد وصلنا إلى "البنية الدّلاليّة الكبرى" (Macro Structure Sémantique).
هدف هذا المنهج دراسةُ الأدب ونصوصه: من مفردات، ودلالاتٍ...، وتفاعلِ هذه الخصائص بعضِها مع بعضه الآخر. بناءً عليه، كان لا بدَّ من اعتمادِ المنهجِ الأسلوبيّ النّقديّ الأدبيّ، إذ إنّه يَتناول إحصائيًّا، مستوياتِ النّصِ المعجميّة، والتّركيبيّة، والإيقاعيّة، والبلاغيّة والدّلاليّة. ونبرز الحقول المعجميّة وإحصائها وتصنيفها وصولًا إلى المقاربة، ودراسة الخصائصِ المُهَيمِنةِ على النّصوصِ المدروسة، لِكشف مفهوم الأدب والقيَمِ التّعبيريّةِ، على قدر المستطاع.
ه- المخطّط
يتألّف مخطّط البحث من قسمين: القسم الأوّل يتضمّن المستوى المعجميّ، أي استخراج المفردات الّتي لها علاقة بالأدب ومن ثمّ تفنيدها، لِتحديد نوع الأدب وكشف مقاصد الكاتب ودلالتها. والقسم الثّاني نعرض فيه بقيّة المستويات بشكلٍ مقتَضَب، ونقيم نقدًا، ونستعرض القيَم الفنيّة والدّلاليّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق