Al-Hadatha Journal: 31 years of communication - Welcome to the site (under construction). Here we publish Abstracts of research

بحث - Search

مجلة الحداثة: 31 عامًا من التواصل - أهلا بكم في الموقع الترويجي (قيد الانشاء) ننشر هنا ملخصات عن الأبحاث

المشاهدات

جابر عصفور وداعا: ابن المحلة الذي جعل ذاكرتنا مقاومة للنسيان

جابر عصفور - مجلة الحداثة

فرحان صالح *



رسم المفكر والكاتب والتنويري المصري جابر عصفور (1944 – 2021) عبر مؤلفاته وترجماته ونشاطه الثقافي والفكري، صورة مغايرة للثقافة العربية التقليدية، فعبّر عن جيل عربي له موقعه ورؤيته للحضارة والثقافة العربيتين. كان مجتهدًا، ونشيطًا، ومثابرًا، واجه التحديات والتغيرات التي مرّ بها العالم العربي عمومًا ومصر خصوصًا، بوعي المثقف الرؤيوي.
نودّع عصفور وهو من الذين كانوا مع مجموعة من المثقفين العرب، من المساهمين بتأسيس مجلة الحداثة اللبنانية قبل انطلاقتها رسميًّا في العام 1994 في بيروت، وقد بقي من ضمن أعضاء الهيئة الاستشارية للمجلة منذ ذاك التاريخ.
في محطّاته الخمس: "النشأة، فتنة القاهرة، ذكريات تلمذة، سكندريات، وذكريات ناصرية"، يتناول جابر عصفور في سيرته "زمن جميل مضى"(*) المرحلة الممتدة من خمسينيات القرن العشرين، ولادته في المحلة الكبرى، وتعلمه في مدارسها، حتى بداية السبعينيات، أي في العام الذي توفي فيه جمال عبد الناصر..
المتابع لمضامين هذه السيرة، يجد أنها سيرة جيل عرفه الكاتب ونشأ وتعلم وعلّم وتربى سياسياً، متفاعلاً معه متأثراً ومؤثراً في زمانه وبيئته، وفي حركته السياسية والثقافية والفنية التي سادت آنذاك.
لذا، يمكننا القول: إن جابر الذي تعرف على طه حسين، وعاش جزءًا من زمانه، هو من تأثر به، وكان ذلك بعد أن قرأ مذكراته "الأيام". بدءًا من تلك اللحظة، كما يقول: "قرر جابر أن يكون طه حسين جيله"، وجابر ذاته، ومن خلال أعماله الأدبية والفكرية المنشورة، قد أضاف إلى ما بدأ به طه حسين، إضافات نوعية، متأثراً بالمدارس التي عرفت في تلك المرحلة.
إن كتاباته وعلى تنوعها – كان قد تناول فيها قضايا التنوير والحداثة - ليست سوى الدليل على ذلك. جابر عصفور الذي تأثر بطه حسين وقرأه وتأثر بليبراليته الثقافية، هو من كتب عن مراياه الفكرية المتنوعة، وهو في ما بعد من مثل جيلاً من الليبراليين المثقفين. يذكر جابر ذلك، لينتقل متحدثاً عن المؤثرات السياسية لسياسات جمال عبد الناصر ليست به كفرد، بل في الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية المصرية العربية.
لا يخفي جابر ذلك، بل يجاهر بما فعلته تلك السياسية في كيان الشعب المصري، خصوصًا حينما اتخذ ناصر قرارًا بأن يكون التعليم مجانيا ومفتوحا لكل المصريين. ومصر ما قبل عبد الناصر، كانت الأمية فيها تتجاوز الـ85 في المئة.
يعدّ جابر أن وعيه ووعي جيله الوطني بدأ ينمو ويتطور بعد كل إنجاز اجتماعي ووطني، لاسيما حينما اتخذ عبد الناصر قراره الشهير بتأميم قناة السويس، وبالأخص بعد الحرب التي خاضتها مصر العام 1956 ضد الإنجليز والفرنسيين والصهاينة، تلك الحرب التي رافقها توزيع الأرض على الفلاحين المعدمين والتي بلغ عدد المستفيدين منهم حوالي ثلث عدد سكان المجتمع المصري. أيضاً وجيله، بدأ يعيش ما تشهده مصر من تطور على المستويين الاجتماعي والاقتصادي حيث كانت مصر حسب سمير أمين وشارل بتلهايم، أكثر تطورًا من كوريا الجنوبية، وأقل تطورًا من اليابان، ناهيك عن تطور مصر عما كانت عليه تركيا وإيران، وحيث كانت صناعاتها القطنية تنافس الصناعات الأوروبية، ناهيك عن غزو صناعاتها للأسواق الأفريقية وللعديد من الأسواق الآسيوية. فضلاً عن أن مكانة مصر العالمية كانت في الموقع المقرر والقائد، وليست في الموقع المرتهن والتابع. فعبد الناصر لم يكن زعيماً عربياً فحسب، ومصر عبد الناصر من ساهم، في خلق المناخات لتحرير الشعوب العربية من الاستعمار...
لقد كنت تجد، في ذلك الزمن الجميل، أجساد أجيال من اللبنانيين والعرب خلال تلك المرحلة في بلدانهم، لكن ذاكرتهم ومشاعرهم وعقولهم كانت في مصر. لذا، تكاد تكون سيرة جابر عصفور، هي سيرة ذلك الجيل، فضلاً عن أنها سيرة إذاعة صوت العرب "أحمد سعيد، وجلال معوض"، إنها سيرة شكري القوتلي والوحدة المصرية السورية... إنها سيرة جمال عبد الناصر حبيب الملايين وسيرة "طه حسين" أحد أهم المساهمين في الثقافة المصرية العربية، كذلك سيرة جيل من الفنانين من أمثال عبد الحليم حافظ، إذ يرى جابر عصفور أن سيرة هذا المطرب "معبود العشاق"، هي امتداد لسيرة العظماء من أجيال مصر والعرب.
يلامس جابر عصفور في نصوصه التي نشر معظمها في "مجلة العربي"، الحياة الثقافية والسياسية والفنية المصرية تحديداً. وإذ ينتقل إلى زمن سابق، هو ذاته لا يخفي إعجابه بالتراث المعماري الذي عرفته مصر خلال حكم الخديوي إسماعيل، حيث يتابع الإنجازات العمرانية للخديوي إسماعيل في القاهرة، هذا الذي تأثر بفنون العمارة الفرنسية – الإيطالية، وعمل على بناء العديد من المؤسسات على طراز ما هي عليه في الغرب، آتياً بمهندسين غربيين لإنشاء العديد من المباني التي غيرت معالم وجه القاهرة، تلك المباني التي لا زالت شاهدة في تميزها في خريطة الفن المعماري لذاك العصر.
سيرة جابر عصفور، هي سيرة عائلية – مدينية – مدرسية - جامعية، هي سيرة أجيال من الأكاديميين والمدرّسين الذين عرفتهم مصر في تلك المرحلة. وجابر يتحدث عن الكيفية التي انتقل فيها من المدرسة، مدرسة الأقباط، وكيفية تشكّل وعيه الديني في المدرسة، ومن ثم انتقاله إلى الجامعة التي تعلم فيها وعلم فيها وكل ذلك بفضل عبد الناصر.
إنها سيرة المحلة الكبرى والإسكندرية، والقاهرة، هذه المدن الذي رسم عصفور صورة لبيئاتها المتنوعة. هي سيرة أساتذة تعلم منهم واستفاد من مناهجهم، الذي طبق بعضاً منها، ومن الكيفية التي يبنون عليها ويعالجون المشاكل التي تعترضهم. إنها سيرة آبائه من المدرسين، وطه حسين المثال كذلك تلميذته سهير القلماوي. انها سيرة المكتبات التي نهل منها ثقافاته الأولى، تلك المكتبات التي فتحت شهيته للمطالعة، لاسيما بائعي الكتب في سوق الأريكية، وقبل ذلك بائع الكتب "كامل" الذي عرّفه بالأعمال الروائيّة ليوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وفاروق خورشيد، الذي بدأ التضييق عليه في عهد السادات، وتم استبعاده من وظيفته، وعبد الحميد جودت السحار، وأمين يوسف غراب، ويوسف إدريس، وعلي أحمد باكثير، ونجيب محفوظ، كذلك إعجاب جابر بأرنست همنجواي الذي تأثر بأعماله الروائيّة، ودفعه لقراءة الأعمال الروائية العربية، وكان قد قرأ له: "ثلوج كليمنجارو"، "لمن تدق الأجراس"، "وداعاً للسلاح"، "العجوز والبحر".
إنها سيرة جيل رافق وتعلّم من طه حسين، من أمثال عبد العزيز الأهواني وشوقي ضيف ومحمد حسين هيكل وعز الدين إسماعيل وعبد الرحمن فهمي، ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ويوسف خليف وبنت الشاطئ وصلاح عبد الصبور ثم محفوظ عبد الرحمن وغيرهم.. سيرته هي سيرة عوني عبد الهادي ومحمد النويهي وجمال حمدان ولطفي الخولي وعبد القادر القط وعبد الغفار مكاوي وغيرهم.
يقول عصفور إن المؤثرات الأولى في حياته الثقافية، بدأت في المحلة الكبرى التي ولد فيها، وكانت الأساس الذي راكم عليه عوالمه، وبنى تراثه الثقافي والفكري. وجابر عصفور لا يخفي مغامراته، وهو الذي يعتبر نفسه بأنه كان طالباً مشاكساً.
إن زمن جميل مضى – هي سيرة مؤثرات المعلّم الأول والحبّ الأول، والأعمال الروائية والقصصية والشعرية الذي قرأها جابر. إنها سيرة كتاباته وتوجهاته الثقافية الأولى، وكيف تطورت ونمت مداركه الثقافية الحياتية، متعرّفاً على سليمان البستاني الذي قرأ له ترجمته إلياذة هوميروس، الذي رأى في لغته المترجمة لهذا السِفر الإنساني، لغة تعود بك بمفرداتها إلى العصر الجاهلي..
عصفور في سيرته يدخل بك إلى صالات السينما، وما هي الأفلام الأولى التي شاهدها. ويعرّفك على الأفلام التي شاهدها وكان بطلها عبد الحليم حافظ، وعلى الأغاني التي سمعها لهذا المطرب الذي كان ملهماً له، معيداً إليك تاريخ هذا الفنان الذي ارتبط اسمه بتاريخ ثورة يوليو، مستدركاً أسماء رفاق هذا الفنان وشركائه ليس من الشعراء الذين كتبوا أغانيه فحسب، بل الموسيقيين الذين لحّنوا لهذا المطرب العظيم، معرجاً على شركائه في التمثيل من ناديا لطفي إلى شادية إلى زينات صدقي "خفيفة الظل"، ووداد حمدي ويحيى شاهين ومريم فخر الدين.
ولن ينسى عصفور عوالم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ونجاة الصغيرة، تلك العوالم التي يدخلك إليها، وأنت لا تستطيع المقاومة، بل تجد نفسك منساقاً إلى رفقته في هذه الرحلة، وأنت المندهش لهذه الذاكرة، قليلة النسيان، فعصفور وهو يسرد مذكراته، ترى نفسك تعيش ما يكتب، تتخيل ما يتخيل، تسترجع ذلك الزمن وتلك الصور والمشاهد من الماضي الجميل.
يسلط جابر أعيننا على رداءة المستقبل، منتقداً نظام السادات الذي تحالف مع الإخوان المسلمين، واستند إليهم في مواجهة الناصريين واليسار اللذين ساهما في بناء مصر الناصرية.
إذ يعترف عصفور في مذكراته هذه، (بفضل الآخرين الذين تأثر بهم)، لا يسعنا إلا الاعتراف بفضله أيضاً في الحياة الثقافية العربية، وهو الذي كان حاضرًا ليس في المواقع الوظيفية التي عمل فيها فحسب، بل في عشرات الأعمال الفكرية التي قدمها للثقافة العربية. وجابر في مذكراته هذه يجعل ذاكرتنا مقاومة للنسيان.
إنه أعاد إحياء الصور التي لم ينسها جيلنا. إن مذكراته هي ذاتها مذكرات جيلنا، خصوصا الجانب السياسي منها، إنها مذكرات جيل، وإن كان قد كتبها فرد اسمه جابر عصفور. إنها مذكرات رسمت معالم ما كنّا عليه وما عرفه جيلنا من فرح، ومن أحلام ومن إحباطات.
لقد رسم جابر ما كنّا عليه وتخيلناه، ففي هذه المذكرات الكثير من الحقائق والقليل من الأوهام، وإن كان فيها أيضاً ما يمكن الوقوف عنده، والمجادلة النقدية في التعاطي معه..
سنكمل ما بدأه المفكر الكبير، الذي ساهم إلى جانب المثقفين والمفكرين العرب، في إثراء المشهد الثقافي والأدبي لأكثر من نصف قرن.
رحم الله الصديق ورفيق الدرب جابر عصفور الذي ترك بصمة في تاريخ الأدب العربي لن يُنسى. سيفتقدك أحبتك وتلامذتك، وستبقى في الذاكرة مدماكًا شامخًا من مداميك الثقافة العربية.

لروحك السلام.

· رئيس تحرير مجلة الحداثة

· صدر الكتاب عن الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2011 – وهذا النص كان قد شارك فيه الكاتب في "الصالون الثقافي العربي" في مصر الذي يرأسه يحيى جمال.

ليست هناك تعليقات:

اقرأ أيضًا

تعليقات القرّاء

راسلنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تصنيفات وأعداد

Al Hadatha (975) أبحاث في الأدب واللغة (349) أبحاث في الثقافة الشعبية (245) أبحاث في العلوم الاجتماعية (179) أبحاث في الفنون (167) أبحاث في التاريخ (123) أبحاث في التربية والتعليم (108) أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية (77) أبحاث في علم النفس (61) مراجعات (59) أبحاث في الفلسفة (55) صيف 2019 (42) شتاء 2020 (38) محتويات الأعداد (38) خريف 2020 (37) ربيع 2020 (37) افتتاحية الأعداد (36) خريف 2019 (35) صيف 2020 (35) خريف 2023 (34) ربيع 2024 (34) شتاء 2024 (33) أبحاث في الآثار (32) الحداثة : أعلام (32) أبحاث في الإعلام (31) شتاء 2021 (31) خريف 2016 (26) شتاء 2017 (25) الحداثة في الإعلام (23) ربيع 2021 (23) صيف 2018 (23) صيف 2023 (23) نوافذ (23) خريف 2018 (22) ربيع 2022 (22) صيف 2017 (22) شتاء 2022 (21) خريف 2021 (20) ربيع 2017 (20) ربيع 2023 (20) صيف 2021 (20) أبحاث في القانون (19) شتاء 2019 (19) خريف 1994 (18) أبحاث في كورونا (covid-19) (17) صيف 2022 (17) خريف 2001 (16) خريف 2022 (16) شتاء 2023 (16) أبحاث في العلوم والصحة (15) ملف الحداثة (15) ربيع 2019 (12) شتاء 2000 (12) شتاء 1996 (11) شتاء 2018 (11) خريف 1995 (10) ربيع 2015 (10) أبحاث في الجغرافيا (9) خريف 2004 (9) صيف 1997 (9) خريف 2017 (8) ربيع 1999 (8) ربيع 2016 (8) ربيع وصيف 2007 (8) شتاء 1998 (8) شتاء 2004 (8) صيف 1994 (8) صيف 1995 (8) صيف 1999 (8) أبحاث في الإدارة (7) شتاء 1999 (7) شتاء 2016 (7) خريف 1996 (6) خريف 1997 (6) خريف 2013 (6) ربيع 2001 (6) شتاء 1995 (6) شتاء 2013 (6) صيف 2000 (6) صيف 2001 (6) صيف 2002 (6) خريف 1998 (5) خريف 2000 (5) خريف وشتاء 2003 (5) ربيع 1996 (5) شتاء 1997 (5) صيف 2003 (5) صيف 2009 (5) ربيع 2002 (4) شتاء 2011 (4) صيف 1996 (4) صيف 2008 (4) خريف 2003 (3) خريف 2009 (3) خريف 2010 (3) خريف 2015 (3) خريف شتاء 2008 (3) ربيع 1995 (3) ربيع 1998 (3) ربيع 2000 (3) ربيع 2003 (3) ربيع 2012 (3) ربيع 2018 (3) شتاء 2001 (3) شتاء 2010 (3) صيف 1998 (3) صيف 2005 (3) صيف 2010 (3) صيف 2014 (3) صيف خريف 2012 (3) العدد الأول 1994 (2) خريف 1999 (2) خريف 2005 (2) خريف 2014 (2) ربيع 2006 (2) ربيع 2011 (2) ربيع 2013 (2) ربيع 2014، (2) شتاء 2005 (2) شتاء 2012 (2) شتاء 2014 (2) شتاء 2015 (2) صيف 2006 (2) صيف 2011 (2) صيف 2013 (2) صيف 2015 (2) الهيئة الاستشارية وقواعد النشر (1) خريف 2011 (1) ربيع 2004 (1) ربيع 2005 (1) ربيع 2009 (1) ربيع 2010 (1) ربيع 2014 (1) شتاء 2007 (1) صيف 2004 (1) صيف 2016 (1) فهرس (1994 - 2014) (1) مجلدات الحداثة (1)

الأكثر مشاهدة