♦ جان إلياس القسيس *
نبذة عن البحث
كثيرةٌ هي الدراسات الَّتي تناولت نشأَة المسرح عند الإِغريق قبل حوالى أَلْفَيْن وخمسمئة عام. هذا التاريخ هو في الواقع يشهد على ولادة "المسرحيَّة"، أَمَّا "المسرح" فقد عرفته البشريَّة منذ أَن كانت. وبهذا نفرّق ما بين "المسرح" و"المسرحيَّة"؛ "فالمسرح" شكلٌ إحتفاليٌّ ابتدأَ مع أَنشطة الصيد الأَولى الَّتي عرفها الإِنسان البَدَئيُّ، لتشمل كلَّ احتفاليَّات السحر والخصب والموت... أَمَّا "المسرحيَّة" فهي شكلٌ أَدبيٌّ، انطلق من تلك الاحتفاليّات نفسها، لينتظم لاحقًا في إطارٍ محدَّدٍ بموضوعٍ معينٍ وزمانٍ ومكان.
والمسرح الإِغريقيُّ الَّذي اعتمده الدارسون والباحثون نقطة البَدءِ بالنسبة إلى المسرح العالميِّ، نشأ أصلاً كعملٍ دينيٍّ يعالج موضوعاتٍ مستمدّة من صُلب العبادة ومن عالم الآلهة "الَّذي أَوجَدَه اليونانيّون بحُكم الضرورةِ القصوى، ليتمكَّنوا من تحمُّل تَبِعات الوجود"،1 وذلك عبْر الأَساطير، وعبر التعامل والتفاعل مع الأَسرار الغيبيَّة في عالمٍ مطلقٍ تشوبه الفوضى ويعتريه الغموض وتتحكَّم فيه الحتميَّة القدريَّة. وعليه، فإنَّ القول بعلاقةٍ ما بين المسرح والميتولوجيا، يبقى مبهمًا ما لم نخُضْ في مظاهر تلك الميتولوجيا وتفاصيلها، لإماطة اللِّثام عن خفاياها ورموزها الَّتي تناولتها موضوعات المسرحيَّات الأُولى، وانطلقت منها إِلى كشف حقيقة ما يؤمن به الإِنسان المذعن لمشيئةٍ قدريَّةٍ لا يجد منها خلاصًا. فأَتى المسرح ليفتح له بابًا إِلى المعرفة أَوَّلاً، ثمّ إِلى التمرُّد والتخطّي.
تبرز أمامنا هنا إِشكاليةٌ في كيفية مفهوم التخطّي الَّذي يمكن تفسيره بتجاوز الأَعراف الإِلهيَّة، وإِدارة الوجه عن أشكال العبادة الَّتي ارتضاها الإنسان منذ أَن وُجد، وربط بها مسار حياته كلِّها، واستسلم لمشيئة أربابه، أيَّا تكن هذه الأَرباب، وتركها تتحكَّم في قدره ومصيره، في غياب الوعي الَّذي يحدِّد وحده صوابية الولاءِ والانتماء. فهل جاء المسرح ليوقظ هذا الوعي الخامد، ويدفع بالإِنسان لا إِلى تخطّي قَدَره فحسب، بل إِلى تخطّي ذاته أَوَّلاً وإِدراك حقيقة وجوده؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق