صلاح مخيمر (1922 – 1988): عالم نفسي مصري، من مواليد قرية سهرانة في محافظة المنيا (مصر). شغل منصب أستاذ الصحة النفسية في جامعة عين شمس. حاز شهادة البكالوريا 1939، والتحق بالكلية الحربية، وتخرج ضابطًا 1942. أُصيب في الحرب العالمية الثانية بفقد بصره، ومقدمة ذراعه اليسرى مع إصابات في مناطق مختلفة من جسمه. ظل تحت العلاج لمدة عامين، ومكّنته إرادة الحياة من تجاوز محنته والتغلب على آثار الإصابات. عاد إلى الجامعة لدراسة علم النفس الذي كان قسمًا مشتركًا مع الفلسفة، في جامعة القاهرة (الآن). حصل على الليسانس 1949، ثم صدر الأمر الملكي بإيفاده إلى بعثة للحصول على الدكتوراه، فاختار السوربون التي تعلم فيها أستاذه يوسف مراد. سافر في يناير (كانون الثاني) 1950، وحاز الدكتوراه 1957، وعاد ليعمل في تدريس الصحة النفسية في كلية التربية - جامعة عين شمس، وظلّ بها أستاذا ومشرفًا على الرسائل العلمية للكثير من الباحثين، إلى جانب نشاطه العلمي في البحث والتأليف والترجمة، مما أثرى المكتبة العربية ببحوثه الرائدة في فهمه الخاص للصحة النفسية من منظور فرويدي، وذلك حتى وفاته الأربعاء 3 فبراير (شباط) 1988. من أهم مؤلفاته: "نحو نظرية ثورية في التربية"، و"تناول جديد للمراهقة"، و"سيكولوجية الموضة"، و"رسالة في سيكولوجية الحبّ"، وغيرها من المؤلفات ذات الرؤى التي تخالف الشائع والمألوف.
!cw-id>!/cw-id>!cw-id>!/cw-id>
بحث - Search
!cw-id>!/cw-id>!cw-id>!/cw-id>
العدد الجديد - New issue - Nouveau numéro
المشاهدات
مراجعات : مخيمر والحب
يعرض مخيمر لنظريته في تفسير الحبّ من خلال رسالة يرسلها إلى حبيبته، وهي رسالة مطبوعة في كتاب منشور في مايو (أيار) 1975، ومن ثم فهي رسالة موجهة للقرّاء والباحثين، وإن اتخذت شكل الرسالة الشخصية للحبيبة. يبدأها بأنها رسالة حول أهم وأخطر الظواهر شيوعًا في حياة الإنسان ألا وهي الحبّ، وهي الظاهرة التي لم تلق محاولات تفسيراتها السابقة - برأيه- إقناعًا. ولأن مخيمر فرويدي أصيل، فإنه يقول إنه اختار عنوان كتابه على غرار عنوان أخطر وأهم كتب فرويد "ثلاث رسائل في الجنس"، كذلك لأنه يعتقد أن رسالته في الحبّ تتميمية لرسائل فرويد، وامتدادًا للعمل الطليعي الذي بدأه. وإن كان الفرق أن فرويد تناول الجنسية بشقيها العاطفي والإنساني، في حين أن مخيمر يقتصر في رسالته على الجانب العشقي العاطفي من الجنسية فقط. كذلك تمتاز رسالة مخيمر، بالإضافة إلى أنها تستند إلى مفاهيم التحليل النفسي (كما عند فرويد)، وإلى مفاهيم الديالكتيك والفلسفة الوجودية والتصورات الجشطلتية.
ينتقد مخيمر محاولة أستاذه دانيل لاجاش لتفسير الحبّ في كتابه "غيرة الحبّ"، بأنها وقفت عند مجرد الوصف؛ سواء بالرغبة في التملك أو الكينونة أو هما معًا، ولم تنتقل من الوصف إلى التفسير. مما يعدّه مخيمر، صورة مزيفة للحبّ. يؤكد مخيمر أن ظاهرة الحبّ العشقي العاطفي ما زالت تمثل تحديًّا أمام علماء النفس عامةً، وعلماء التحليل النفسي خاصةً، وأنه يحاول المجازفة بالتفسير سواء حالفه التوفيق أم لا. وينبّه أنه يدخل المحاولة مسلحًا بمنهجية تعتمد أساسًا على "فهم الإنسان بما هو إنسان"، وذلك انطلاقًا من "الذاتية"، التي لا تتعارض مع الموضوعية؛ "فالذاتية هنا لم تكن غير هذا المنطلق الذي أتاح لي أن أتأدى إلى صميم الظاهرة"، فالموضوعية عند مخيمر يستحيل عليها أن تستبعد الذاتية، وكل ما تستطيعه هـو أن تكون على وعي بها، وأن تعمل لحسابها. فالموضوعية الحقّة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية التي يعدّها مخيمر "متغيرًا طبيعيًّا".
قبل أن يدخل مخيمر في موضوع رسالته، ينبّهنا إلى أنه كان صريحًا في تناوله لموضوع الحبّ، وأن صراحته ستطلق عليه نباح أصحاب القيم التقليدية والفهم العلمي القاصر، لكنها الضريبة التي يتحتم عليه دفعها باعتباره صاحب نظرة جديدة في تفسير ظاهرة الحبّ.
كانت الرسالة موجّهة إلى حبيبته الشابة "البريّة في سحرها، الوحشيّة في جمالها، الضاربة في جلالها، صاحبة الشخصية القوية التي تثير الحسد في نفوس أشجع الشجعان، والعقل الراجح الذي ينتزع الإعجاب من قلوب أحكم الحكماء، صاحبة البدن الرقيق الذي يثير الغيرة في نفوس أرق الزهرات، صاحبة الخُلُق البسيط المتين الذي تغبطه عليه أبتل الراهبات".
كانت كل هذه الصفات "الكيفية" يقابلها صفات "كمية" عاشها مخيمر في حبّ سابق. ما يجعلنا نذهب إلى هذا الاستنتاج هو ما يتذكره في صباه عن "مليكة الصبّار"؛ إذ كان في السادسة عشر من عمره، عندما دخلت مدرسته مسابقة ملكة الصبّار، أي أجمل نبتة لزهرة الصبّار، وكانت الجائزة الأولى لنبتة اسمها "عمامة القاضي"، وأحسّ مخيمر بجمال هذه النبتة، وشعر أنها يجب أن تكون له وحده، وبالفعل ضمّها إلى صدره، وحملها وقفز بها من فوق سور المدرسة، واتجه إلى بيته. وفي منتصف الليل جاءه زميل ينتمي إلى أسرة أرستقراطية وكان يهوى الصبّار، وطلب أخذ نبتة الصبّار، وبعد مساومات، عرض عليه عشرين نبتة صبّار من حديقته الخاصة مقابل "مليكة الصبّار"، فوافق مخيمر. وهذا ما عدّه تضحية بالكيف مقابل الكم، وما عدّه أيضا أول خيانة لنفسه. يقول مخيمر: "ومضيت مع هذا الكم سنوات حياتي".
وهذا ما يؤكده في قوله لحبيبته: "في هذه المرة صححت ما كان مني في القديم، تخليت عن الكم وإلى غير رجعة، لأعيش بقية العمر مع الكيف وللكيف. نعم صديقتي وزميلتي، فقد كنتِ وما زلتِ بالنسبة إليَّ مليكة الصبار".
ساعد مخيمر حبيبته (الكيف)، وكانت تلميذته، على السفر في بعثة إلى أوربا، التي وصفت له هذا السلوك بأنه "تضحية وإخلاص"، فيردّ عليها بأنه لم يتكلف جهدًا في ما فعل، بل فعله من أعماقه على نحو طبيعي مستشعرًا في ذلك بالسعادة، وهو يرى صورة حبيبته في المستقبل تزداد اكتمالًا ودنوًا مما ينشده، ومن ثم يعدّ ما فعله محض نرجسية؛ "نعم إنها النرجسية تجعلني استشعرك امتدادا لي، بل جانبا من جنبات نفسي يحقق لي ما يكتب لي أن أحققه وتعيدك لي أمثل صورة لما يمكن أن تكون عليه نفسي". ويكمل أن وصفه لها بأنها نفسه وحياته حقيقي وليس مجازا، ومن ثم يكون حبه لها هو حبه لنفسه، وحبه لنفسه هو حبّه لها.
لذا كان الحبّ هنا نرجسيًّا، من حيث هو حبّ للذات، رغم أنه حبٌّ موضوعيٌّ؛ حيث أنه يتجه إلى موضوع خارج الذات؛ "إنها ظاهرة واحدة تنظر إليها من ناحية، فإذا بها حبّ لموضوع آخر، وتنظر إليها من الناحية الأخرى، فإذا بها نرجسية وحب للذات".
وهذا ما يُسمّى "الوحدة" التي تشكل صميم الحبّ؛ حيث يتحول المحبين إلى "كينونة واحدة" أو كيان واحد. وهذا معنى قول المحب لحبيبه: "وجدت فيك نفسي".
ولما كانا - مخيمر وحبيبته - من المؤمنين بالجنسية الثنائية، فقد اختار كل منهما الآخر حبيبًا؛ هو اختارها لأنها أنموذج للأنوثة وتعبير عن كمالها، وهي اختارته لأنه أنموذج للذكورة وتعبير عن كمالها.
والجنسية الثنائية تعني أنه لا يوجد ذكورة كاملة، ولا أنوثة كاملة، بل أن كل طرف يتضمن في نفسه ثنائية جنسية: ذكورة/أنوثة، ولكن بمدى ما؛ فالذكر (الذي يغلب عليه الذكورة) به مدى أنثوي كامن/مختبئ، والأنثى (التي يغلب عليها الأنوثة) بها مدى ذكوري كامن/مختبئ. واختيار كل طرف للآخر يكون على أساس تكافؤ بين الذكورة (السادية) عند الرجل والأنوثة (المازوشية) عند المرأة. ولأن مخيمر - كما يرى في نفسه - عالي الذكورة، فقد اختار حبيبة عالية الأنوثة، ولأن لديه مدى منخفض من الأنوثة، فقد اختار حبيبة ذات مدى منخفض من الذكورة. وكلاهما - هو وهي - يمارسان الكف لجنسيتهما الثانية، "أفليست لدي من عناصر المازوشية الأنثوية المكفوفة مثل ما لديك من عناصر السادية الذكرية المكفوفة؟". بمعنى أنه يسيطر على أنثويته ويقمعها، كما أنها تسيطر على ذكورتها وتقمعها.
والجنسية الثانية (الأنثوية عند الذكر، والذكرية عند الأنثى) مكفوفة، لأن ثقافة المجتمع لا تسمح لأي طرف بإظهارها، ومن ثم فهي قابعة في أعماق أصحابها تتلمس السبيل إلى التحقق، ولا مجال لتحققها بشكل مباشر، ومجالها الوحيد للتحقق هو بشكل غير مباشر بالإسقاط. وهذا ما فعله مخيمر؛ فعندما رأى حبيبته لأول مرة أيقن أنها الأنثى التي كانت تتمنى عناصره المازوشية الأنثوية أن تكونها لو أتيح لها أن تتحقق، كما أنه كان الرجل الذي كانت عناصرها السادية الذكرية أن تكونه لو أتيح لها أن تتحقق، "معنى هذا أن كل واحد منّا قد شعر للوهلة الأولى أنه يستطيع، بالآخر وليس بغيره، أن يبلغ مشاعر الاكتمال". ومن هنا كان الحب بينهما، الحبّ باعتباره تكاملًا للجنسية الثنائية عند الطرفين.
هو رأى فيها تجسيدًا لمازوشيته (أنثويته) الخبيئة (الكامنة)، مما أتاح لذكريته البادية أن تحتضن نفسه في سعادة غامرة من سعادة الاكتمال.
كذلك كان هو بالنسبة إليها، تجسيدًا لمازوشيتها (أنوثتها) التي شرعت في التبدي، ومن ثم تتعشق ذاتها، وتحتضن نفسها في الأحاسيس الغامرة لسعادة الاكتمال. كل منهما رأى في الطرف الآخر مكمله ومتممه، فاكتملت السعادة، ووجد كل طرف في الطرف الآخر نفسه.
الرجل يبحث عن امرأة تشبع لديه ذكريته البادية (ساديته)، كذلك تشبع أنثويته الكامنة (مازوشيته)، والمرأة كذلك تبحث عن الرجل الذي يشبع لديها أنثويتها البادية (مازوشيتها)، وكذلك ذكريتها الكامنة (ساديتها).
ونجاح الحبّ العشقي بين رجل وامرأة يكون بتحقيق التكامل بين مدى الذكورة البادية/ الأنوثة الكامنة عند الرجل، والأنوثة البادية/الذكورة الكامنة عند المرأة. وهذا ما يراه مخيمر قد تحقق بينه وبين حبيبته، والذي يسميه "انبثاق الحب الحقيقي"؛ بمعنى أن كل طرف يرى في الطرف الآخر أفضل تجسيد لمداه الجنسي؛ ذكورة/أنوثة أو سادية/مازوشية. وهذا الأمر يختلف عن مجرد الانجذاب الجنسي بين مجرد ذكر وأنثى، فالحبّ الحقيقي مزاج من نقيضين، لا يتحقق تمامًا في كيان فردي واحد، بل يتحقق في "كينونة/وحدة" لفردين "ليس فقط تتكامل عندهما سادية الواحد مع مازوشية الآخر، بل يكون الواحد بالنسبة إلى الآخر أمثل تجسيد لساديته أو لمازوشيته الكامنة أو الخبيئة".
والكينونة/الوحدة (الإثنان يصيران واحدًا) تمثل الحبّ الحقيقي؛ حيث تفقد النرجسية والموضوعاتية الحدود الفاصلة بينهما، فيكون الواحد في تمثله للآخر إنما يتعشق نصفه المكفوف وشطره الحبيس. وبذلك يكون التشابه بين الحبيبين في إيقاع الحياة والثقافة، كذلك في الجماع حيث يضاجع الإنسان نفسه (كما قلنا في العناصر الجنسية الكامنة عند الطرفين) مما يجعلنا نقول بيقين إن الإنسان في الحبّ الحقيقي إنما يحبّ نفسه". وهذا ما تؤكده الأساطير من أن الحبيبين كانا قبل الحياة كينونة واحدة، وعندما خرجا إلى الحياة في شطرين منفصلين، ظل كل واحد يبحث في لهفة عن نصفه الآخر. وعثور كل نصف على نصفه الآخر يعني الحب الحقيقي، أما الحب المزيف فهو توهم أن ما وجدناه هو نصفنا المفقود، ويتمثل ذلك في أحاسيس الحب التي لا تزيد عن كونها مجرد بطانة وجدانية للرغبة الإنسانية الشهوية، بحيث يكون الحبّ لصيقًا للوظيفة البدنية.
إن المازوشية (عند الذكر) والسادية (عند الأنثى) الكامنة/الخبيئة في كليهما، بفعل الإجهاض الثقافي، عندما تعثر في الآخر على ما كان يمكن أن يكون أمثل تجسيد لها، يستشعر الفرد الاكتمال ثم السعادة. ويعتمد مخيمر في هذه النظرة على واحد من قوانين الإدراك الجشطلتي وهو قانون الإغلاق ... والذي يعني الميل إلى إغلاق الأشكال المفتوحة؛ مثل الدائرة الناقصة جزء، نميل إلى إدراكها على أنها دائرة مكتملة.
يتحدث مخيمر، بعد ذلك، عن إشباع الرغبة، ويصفه بأنه قتل للإثارة التي هي صميم الحياة، وبالتالي يكون الإحساس العابر بالعدم. فقمة وجود ممارسة الحب في استمرار الإثارة، أما الإشباع فهو العدم، باعتباره نهاية تتعارض مع ديمومة ولانهائية اشتهاء المثير. غير أنها نهاية عارضة؛ إذ ما يتجدد حافز الاشتهاء مرة أخرى... وهكذا. وهذا ما يؤدي إلى ديمومة الحب عند الإنسان. فمسار السلوك الجنسي الإنساني ينطلق من التوقع المتزايد للذة، المصاحب لشدة التوتر، والمنتهي باللحظة الختامية بالنشوة عند المرأة، وبالقذف المصحوب أو غير المصحوب بالنشوة عند الرجل.
بهذا السلوك الجنسي يحدد مخيمر الأنموذج الأصيل لظاهرة الحب؛ من حيث التمييز بين السلوك التمهيدي والسلوك الختامي للجِماع.
السلوك التمهيدي قوامه اتجاه إلى، وتزايد مضطرد لتوقع اللذة، يصحبه أحاسيس بالألم من التوتر المتصاعد. أما السلوك الختامي فهو تحقيق اللذة بالإفراغ المكتمل، وبهذا يكون بمثابة القمة التي تبلغها اللذة، وفي الوقت نفسه، نهايتها وعدمها؛ فإشباع الرغبة قتل للإثارة التي هي صميم الحياة.
السلوك الختامي يتميز بالقصر واللحظية؛ فهو لحظة ختامية بأكثر منه سلوك.أما السلوك التمهيدي فيمتد لفترة طويلة نسبية، "وهذا هو السلوك الأنموذج الأولـي الأصلي لعاطفة الحب، مما يجعلنا نعدّه أنموذج السلوك العاطفي المسؤول عن معاني الخلود، واللانهائية التي ننسبها إلى الحبّ والتي كثيرًا ما تعبر عنها القصائد والأغاني في حديثها عن عشق الروح (عشق الروح مالوش آخر، لكن عشق الجسد فاني). إنه لذة معاناة التوتر، أو هي توتر صميمه اللذة؛ أي توتر لاذ، فهما شيء واحد يبدو لذة بقدر ما يبدو توترا".
ومن ثم يبدو الشبع المؤقت/ العارض/اللحظي خاص بالبدن فقط، أما الحب النفسي/الحقيقي فهو شبع لا يشبع، لأنه "تطلع دائب إلى" يستحيل أن يبلغ تمام الإمساك بالموضوع. وهذا غير حب التملك الذي يمارسه بعض الرجال مع بعض النساء أو العكس، وهو الحب القائم على مقولة الملكية.
ويظل السلوك التمهيدي للجماع (تأجيل التحقق الفعلي بالتفريغ) هو الأنموذج الأصيل للخبرة العشقية العاطفية، لأنه ينطوي على لذة قائمة بذاتها صميمها "اتجاه إلى"، يعيشها الفرد لذة بقدر ما يعيشها توترًا. وينسب مخيمر شعر العذرية إلى هذا الأسلوب الاحتجازي التأجيلي في الحب، حيث تتحقق اللذة من خلال المعاناة دون سعي إلى التحقيق الفعلي للإشباع.
ويفرق مخيمر بين السلوك الختامي والسلوك التمهيدي للجماع، من حيث ما يحققه: الأول يحقق اللذة، والثاني يحقق السعادة؛ حيث السعادة انتظار وكينونة معلقة، "فما هو صميمي في هذا كله ينحصر في تأجيل اكتمال اللذة وتحققها بالفعل مما يفسح الطريق أمام الانتظار بكل ما ينطوي عليه من سعادة عبر المعاناة".
الانتظار هنا هو في صميمه عطاء، من حيث هو نوع من التعلق الوجودي يعيشه الشخص مشدودًا إلى الموضوع، وفي هذا تكون السعادة. وهذا ما يدفع العاشقين أحيانًا إلى اصطناع الابتعاد بين حين وآخر، لأن تذوق الحضور يبرز صارخًا على أرضية من الغياب، ولأن لذة الغياب تتحقق في الانتظار، "الاتجاه إلى"، وهي لذة أصيلة قائمة بذاتها، وهي التي تشكل صميم الخبرة العشقية للحب.
البدن يلحّ في طلب الختام، والنفس تجاهد للإطالة في لذة المعاناة، فتقاوم بلوغ النهاية، وعندما تنهزم النفس أمام البدن وتبلغ اللذة نهايتها بالإشباع "يعود من جديد إلى لذته الحقيقية الأصيلة، إلى سعادته في أن يظل دائمًا أبدًا مجرد "اتجاه إلى".
وهذا يفسر اكتمال وحيوية سعادة البعض عندما يكون الحبيب بعيد المنال، فيكون الأمر مجرد "اتجاه إلى" في صورة نقية خالصة لا تشوبه احتمالات اللقاء الفعلي وما تنطوي عليه لحظة الختام من إشباع وتهديد بالنهاية والعدم العارض. وهذا هو المعنى الحقيقي للحب: لذة متوترة، أو توتر لذيذ.
ويرى مخيمر أن الحبّ الحقيقي لا يمكن أن يستمر على المستوى النفسي؛ اتجاه إلى/سعادة فقط، لأن الإنسان بدني بقدر ما هو نفسي؛ فللبدنية آثارها على الحبّ؛ فهي تسنده وتدعمه في حالات، وقد تدمره في حالات ثانية، أو تهدده في حالات ثالثة. وهي في كل الحالات تؤدي إلى إغلاق السلوك العشقي واكتماله بالتفريغ والإشباع والاكتمال.
***
يطرح مخيمر تطور موقفه من الكوجيتو الديكارتي الذي أرجع وجوده إلى التفكير: "أنا أفكر فأنا موجود"، وعارضه بقوله "أنا أضاجع فأنا موجود"، حيث كان الكوجيتو سبيله إلى إثبات "إنيته" الوجودية، والتي جعلها تقوم على المضاجعة، فتكون أكثر شمولا ومنطقية.
ويؤكد مخيمر نظرته ببعض الشواهد منها أن الجنود الذين يتهيأون مع فجر الغد للحرب، كثيرًا ما يجدون أنفسهم يعانون من انتصاب قهري، وبعض من يعيشون حالة الحزن بفقد عزيز لديهم بالموت يجدون لديهم رغبة قهرية في الجِماع؛ حيث يبعث الموت في الإنسان قلقًا من التهديد بالعدم، فيكون الدفاع بممارسة الجنس باعتباره أصدق وأعمق صورة لتوكيد معنى الوجود والحياة.
غير أن مخيمر يعود ليطور من وجهة نظره في ضوء تجاوزه للكم نحو الكيف فينتقل من نظرته التي اقتصرت على الجانب الإنساني من الحياة الجنسية، إلى الماهية النفسية للظاهرة فأعاد صياغة الكوجيتو الخاص به على النحو التالي: "أنا في حبّ حقيقي متبادل، إذن أنا موجود"، "فعندما يعثر المرء على هذا الآخر، ويكون الواحد للآخر أمثل تجسيد لما يمكن أن تكون عليه عناصره المازوشية أو السادية الكامنة/الخبيئة، عندئذ يتحقق اكتمال الوجود، يعيشانه "اتجاهًا دائبًا إلى" ومن ثم سعادته. وتغلبهما البدنية البشرية بين حين وحين فيعيشانها لذة ختامية تكون نهاية دورة يستأنف بعدها الحب مسيرته في دورة جديدة .. وهكذا في غير توقف".
***
عندما تؤدي البدنية البشرية، عبر اللحظة الختامية، إلى إقحام كيانات جديدة تحيل الكينونة/الوحدة إلى شيء مختلف وهو ما نسميه الأسرة (زوجان وأطفال)، هنا تنتهي الكينونة/الوحدة، ذلك أن الطفل الذكر الذي ينطلق من أحشاء أمه يبدو لها أمثل تجسيد للميل السادي في أعماقها، وبذلك يتراجع لديها الحبيب/ الزوج أمامه. وبالدرجة نفسها تبدو الطفلة الوليدة لأبيها كيانًا يرهص بأن يكون أمثل تجسيد للجانب الأنثوي المازوشي المكبوت لديه، وبذلك تتراجع لديه الحبيبة/ الزوجة أمام الكيان الوليد الجديد.
وبذلك تتفكك الكينونة/الوحدة؛ لتصبح كينونتين جديدتين (أم وابنها/أب وابنته) في مسار جديد، حتى يبلغ الأطفال سن الرشد، وعندها تتفكك الكينونتين باتجاه الراشد الجديد الذي يخلق لنفسه كينونة/وحدة جديدة... تستمر حتى تنجب أطفالا، وتتفكك... وهكذا في غير توقف. وقد تحاول الكينونة/الوحدة أن تعود إلى سابق عهدها قبل إنجاب الأطفال، لكن هيهات، فقد تصدعت إلى غير رجعة واتخذت أشكالا جديدة. وهذا هو الديالكتيك؛ حيث تلد الكينونة/الوحدة نقيضها الذي يأتي عليها.
يرى مخيمر أن الكينونة/الوحدة الأولى هي التي يعيشها الطفل مع أحد والديه (الولد مع أمه والبنت مع أبيها)، وأن الكينونة/الوحدة الثانية هي التي يعيشها العشيق مع العشيقة.
لكن ثمة كينونة/وحدة ثالثة هي ما تكون بين الأخ وأخته، وهي من النوع المحارمي المرفوض ثقافيًّا، وإن كانت موجودة من قبل كما في صراع قابيل وهابيل على شقيقتيهما، وزواج الأشقاء عند الفراعنة، وغيرهم في بعض المجتمعات البدائية. "وإذا كانت العلاقة مع بديلة الشقيقة (المرحلة الثانية) تقوم أساسًا على التنافس بعيدًا من احتمالات التكامل والتتام، فإن العلاقة مع بديلة الأم (المرحلة الأولى) تفرض على الرجل سلبية واستقبالية لا تتفق مع دوره الرجلي، ومن هنا يكون دوره الثالث والأخير هو أكثر الأدوار مسايرة للطبيعة الرجلية ولنضجه مع تقدم السن (الزوجة/الإبنة)".
وكان مخيمر يرى أن الرجل "الطبيعي" يتزوج ثلاث مرات في حياته؛ الأولى في (سن الشباب) من واحدة تكبره وتكون امتدادًا لأمه، والثانية (في سن النضج) مكافئة له، والثالثة (في الشيخوخة) تكون في ريعان شبابها، ومعها يستعيد العجوز شبابه وحيويته.
ويضرب مخيمر مثالًا بالرسول محمد (ص) الذي تزوج أولًا من الزوجة/الأم، ثم الزوجة/الشقيقة، وأخيرًا الزوجة/الإبنة، حيث حظيت الأخيرة من عاطفته بما لم تحظ به أي واحدة ممن سبقتها.
***
إذا كان السلوك التمهيدي للجماع هو النموذج الأصلي للسلوك العشقي العاطفي، وكان السلوك الختامي هو السلوك الإنساني الشبقي. كان الأول يمثل السعادة النفسية، والثاني يمثل اللذة البدنية. رغم أن الاثنين؛ النفسي والبدني، يؤلفان معًا الجنس؛ ومن ثم، فإن الحب من حيث هو سلوك عشقي عاطفي يستمتع باستقلال ذاتي نسبي، يظل من حيث الإمكانية وثيق الصلة بالسلوك البدني. وهذا ما يمنح الحب العشقي العاطفي قوته، أما الاستقلال الذاتي لكلا الطرفين، النفسي/البدني، فهو ما يسبب ضعف الحب.
ويقول مخيمر إن الحبّ العشقي العاطفي يستطيع أن يستقل عن الجماع الشبقي البدني بدرجات متفاوتة يمكن أن تصل إلى حد القطيعة. وهذا القول يدفع مخيمر إلى نتيجة يراها صادمة، وهي أن الخيانة البدنية لا تنتمي إلى علاقة الحبّ العشقية! بعد أن يؤكد أنه لا توجد خيانة نفسيّة في صميمها! ويستشهد بما يحدث في المجتمعات الغربية الحديثة التي لا يأبه الرجل - ولا المرأة - بالعلاقات البدنية السابقة للطرف الآخر، ما دام الأمر لا يزيد على مجرد علاقات بدنية. وإن كان مخيمر يتوقع مقاومة رجلية لهذه النتيجة، نظرًا لسطوة الثقافة التي تخدم مصالح الرجل على حساب مصالح المرأة لزمن طويل جدًا. فخيانة الرجل للمرأة أمر مألوف ولا يمكن قياسه على خيانة المرأة للرجل (بدنيًّا طبعًا)، وذلك راجع لأن الثقافة ترى في الرجل ذاتًا، أما المرأة فموضوع مملوك للرجل، وبالتالي تكون خيانتها له اغتصابًا لحقوقه في الملكية. وهذا ما يرفضه مخيمر من حيث أن الخيانة البدنية لا تنتمي أصلًا إلى ظاهرة الحب الذي يقوم أساسًا على العطاء النفسي المتبادل والذي يظل في صميمه "اتجاه نفسي إلى". ومن هنا تكون الغيرة، (على عكس الشائع من أنها قلق من فقدان لملكية موضوع الحب بالمعنى المادي للكلمة)، قلقًا من احتمال فقدان الحب الذي يصدر عطاء عن الموضوع (وليس الموضوع ذاته).
فالتهديد هنا هو تهديد كينونة الذات ووجودها بفقدان حب الموضوع من حيث هو ذات أخرى. إنه تهديد للوحدة الكلية للكينونة، بقدر ما هو تهديد للذات في وجودها ودلالتها.
هذه رؤية مخيمر وتفسيره لبعض جوانب الحب، وهي رؤية خاضعة للمناقشة في ضوء مفاهيم التحليل النفسي التي تبناها مخيمر والتي اجتاحتها الكثير من التطورات على أيدي أساتذة جدد في مدرسة التحليل النفسي ذاتها، وكذا في ضوء مفاهيم أخرى عند مدارس سيكولوجية مغايرة في مفاهيمها عن مدرسة التحليل النفسي، وفي كل الأحوال موضوع الحب من أهم الموضوعات وثيقة الصلة بحياة الإنسان ومشاعره، ومن ثم وجب طرحه للمناقشة في ضوء مفاهيم سيكولوجية وثقافية متباينة.
اقرأ أيضًا
تعليقات القرّاء
راسلنا
تصنيفات وأعداد
Al Hadatha
(1007)
أبحاث في الأدب واللغة
(362)
أبحاث في الثقافة الشعبية
(245)
أبحاث في العلوم الاجتماعية
(182)
أبحاث في الفنون
(168)
أبحاث في التاريخ
(125)
أبحاث في التربية والتعليم
(114)
أبحاث في العلوم السياسية والاقتصادية
(80)
أبحاث في علم النفس
(64)
مراجعات
(61)
أبحاث في الفلسفة
(55)
صيف 2019
(42)
شتاء 2020
(38)
محتويات الأعداد
(38)
افتتاحية الأعداد
(37)
خريف 2020
(37)
ربيع 2020
(37)
خريف 2019
(35)
صيف 2020
(35)
أبحاث في الإعلام
(34)
خريف 2023
(34)
ربيع 2024
(33)
شتاء 2024
(33)
صيف 2024
(33)
أبحاث في الآثار
(32)
الحداثة : أعلام
(32)
شتاء 2021
(31)
خريف 2016
(26)
شتاء 2017
(25)
الحداثة في الإعلام
(24)
نوافذ
(24)
ربيع 2021
(23)
صيف 2018
(23)
صيف 2023
(23)
خريف 2018
(22)
ربيع 2022
(22)
صيف 2017
(22)
أبحاث في القانون
(21)
شتاء 2022
(21)
خريف 2021
(20)
ربيع 2017
(20)
ربيع 2023
(20)
صيف 2021
(20)
شتاء 2019
(19)
خريف 1994
(18)
أبحاث في العلوم والصحة
(17)
أبحاث في كورونا (covid-19)
(17)
صيف 2022
(17)
خريف 2001
(16)
خريف 2022
(16)
شتاء 2023
(16)
ملف الحداثة
(15)
ربيع 2019
(12)
شتاء 2000
(12)
شتاء 1996
(11)
شتاء 2018
(11)
خريف 1995
(10)
ربيع 2015
(10)
أبحاث في الجغرافيا
(9)
خريف 2004
(9)
صيف 1997
(9)
خريف 2017
(8)
ربيع 1999
(8)
ربيع 2016
(8)
ربيع وصيف 2007
(8)
شتاء 1998
(8)
شتاء 2004
(8)
صيف 1994
(8)
صيف 1995
(8)
صيف 1999
(8)
أبحاث في الإدارة
(7)
شتاء 1999
(7)
شتاء 2016
(7)
خريف 1996
(6)
خريف 1997
(6)
خريف 2013
(6)
ربيع 2001
(6)
شتاء 1995
(6)
شتاء 2013
(6)
صيف 2000
(6)
صيف 2001
(6)
صيف 2002
(6)
خريف 1998
(5)
خريف 2000
(5)
خريف وشتاء 2003
(5)
ربيع 1996
(5)
شتاء 1997
(5)
صيف 2003
(5)
صيف 2009
(5)
ربيع 2002
(4)
شتاء 2011
(4)
صيف 1996
(4)
صيف 2008
(4)
خريف 2003
(3)
خريف 2009
(3)
خريف 2010
(3)
خريف 2015
(3)
خريف شتاء 2008
(3)
ربيع 1995
(3)
ربيع 1998
(3)
ربيع 2000
(3)
ربيع 2003
(3)
ربيع 2012
(3)
ربيع 2018
(3)
شتاء 2001
(3)
شتاء 2010
(3)
صيف 1998
(3)
صيف 2005
(3)
صيف 2010
(3)
صيف 2014
(3)
صيف خريف 2012
(3)
العدد الأول 1994
(2)
خريف 1999
(2)
خريف 2005
(2)
خريف 2014
(2)
ربيع 2006
(2)
ربيع 2011
(2)
ربيع 2013
(2)
ربيع 2014،
(2)
شتاء 2005
(2)
شتاء 2012
(2)
شتاء 2014
(2)
شتاء 2015
(2)
صيف 2006
(2)
صيف 2011
(2)
صيف 2013
(2)
صيف 2015
(2)
الهيئة الاستشارية وقواعد النشر
(1)
خريف 2011
(1)
ربيع 2004
(1)
ربيع 2005
(1)
ربيع 2009
(1)
ربيع 2010
(1)
ربيع 2014
(1)
شتاء 2007
(1)
صيف 2004
(1)
صيف 2016
(1)
فهرس (1994 - 2014)
(1)
مجلدات الحداثة
(1)
الأكثر مشاهدة
-
لورين جميل فياض * The impact of solar water heating systems on the consumption and waste of water resources (Akkar Governorate as a model) ...
-
محمد فياض مشيك * The principles and foundations necessary for the establishment of the constitutional structure of the state in the Arab wo...
-
حنان ناصر مطر * Teacher psychological health - The impact of stress on the success of the educational process - Dr. Hanan Nasser Matar مست...
-
ليندا محمد حجازي * Aesthetics of Imagology Manifestation and the Formation of Scene Identity ("Shajarat Al-Layl" by Mohammad Toufi...
-
شليطا فوزي بو طانيوس * Syriac Orthodox - Jacobites in Mesopotamia - their origin and spread (from the first century AD until the eighth cent...
-
سحر خالد نصر * Footnotes in literary texts - their role and importance - Dr. Sahar Nasr مستخلص - Abstract
-
أحمد موسى حوماني* The relationship of kinship and the roots of the dispute between Hashem and Umayyah - Reading of characters and events acc...
-
جنان جميل بلوط * The significance of the artistic image and the structure of rhythm in the modern poetic text - a study in the poetry of Muh...