جنان جميل بلوط *
نبذة عن البحث
هذا البحث مقاربة لقراءة خصوصيّة الفضاء الروائيّ لرواية "تبليط البحر"[1] لرشيد الضعيف** بشقّيه المكانيّ والزمانيّ، لإبراز أبعاد دلالاته وخصوصيّة جمالاته.
وإذا كان للمنهج دور كبير في عمليّة تحليل النصّ الروائيّ، "فإنّ تعدّد مقاربات معالجته تلتئم في ثلاثة مناهج مركزيّة: الأوّل منهج علم الاجتماع الأدبيّ (Sociologies de la literature)، والثاني منهج التحليل النفسيّ للأدب (Psychoanalyses de la literature)[2]، والثالث هو المنهج السيميائيّ.
وقد اخترت هذه المناهج الثلاثة في بحثي لما لها من فعاليّة في فهم النصّ الروائيّ وتحليل مستوياته؛ "فالمدرسة التحليليّة الاجتماعيّة تبحث في العوامل الاجتماعيّة الخاصّة التي أتاحت انتاج هذه الرواية"[iii]. بينما يسعى التحليل النفسيّ في اهتماماته الأدبيّة إلى البحث عن الحالات النفسيّة المتميّزة، وعن الأوضاع الشخصيّة الخاصة لتستنبط أبعادًا ودلالات"[iv]. أمّا المقاربة السيميائيّة فتستجلي مكوّنات الفضاء الروائيّ وتحلّل ظواهره.
يشكّل الفضاء الروائيّ عمقًا من أعماق الرواية، وبعدًا ينتمي إلى ثقافة الراوي وخصوصيّة رؤيته التي تجسّد فرادته التي هي الأدبيّة عينها، وقدرة رؤيته تلك على الإمساك بعمقٍ من أعماق العالم المرجعيّ وفاق ما يراه الباحث اللبناني علي زيتون. والمراد بقوله إنّ الفضاء ببعديه المكانيّ والزمانيّ ليس عنصرًا زائدًا في الرواية، فهو يتّخذ أشكالًا ويتضمّن معاني عديدة، بل إنّه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العالم كلّه"[v]، خلافًا لحركة الشكليين الروس التي ترى أنّ المبنى الحكائيّ لا يُنقص شيئًا من المتن الحكائيّ ولا يزيد عليه شيئًا، فكلّ ما يفعَله هو، إعادة تشكيل لما يمكن أن يراه كلّ الناس من الواقع المرجعيّ.
وإذا كانت الرواية "بنية أدبيّة تنتجها بنية اقتصاديّة وثقافيّة"[vi]، فإنّ للمكان الروائيّ أهميّة كبيرة لا تقلّ عن أهميّة الزمان في بناء الشخصيّات، وفي منح العمل الروائيّ خصوصيّته وطابعه. لذا من الصعوبة الفصل بينهما، لأنّ العمل الروائي يتّصف ببعدين هما: المكان والزمان اللذان لا إبداع خارجهما. فالمكان يتضافر مع الزمان لصياغة أبعاد الرواية الجماليّة إلى الحدّ الذي يستحيل فيه دراسة المكان في أيّ عمل روائيّ بمعزل عن تضمين الزمان. وهذا ما يطلق عليه (الزمكاني) الروائيّ الّذي يعني على حدّ تعبير باختين (Bakhtin) "العلاقة المتبادلة الجوهريّة بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعابًا فنيًّا اسم: Chronotope"[vii].
وإذا كان الزمان الروائيّ ينبني على علاقات ثلاث: "علاقات الترتيب، وعلاقات الديمومة، وعلاقات التردّد، فإنّ المكان ينبني على تقنيّات هي من مقوّمات الخطاب الروائيّ التي يجيدها الراوي بقدر ما يتمرّس في الكتابة ليحقّق أدبيّة روايته التي تتمثّل في النسيج اللغويّ بشكلٍ أساسي – إذ لا فكر خارج اللغة- وفي الأسلوب الذي تصوغه ثقافة الأديب"[viii]. وقد ميّز الروائي والباحث الأردني غالب هلسا (1932 – 1989) بين ثلاثة أنواع من المكان، هي: المكان المجازيّ وهو محضّ ساحة لوقوع الأحداث، والمكان الهندسيّ وهو الذي تصوّره الرواية بدقّة محايدة، والمكان بوصفه تجربة تحمل معاناة الشخصيّات وأفكارها ورؤيتها للمكان، وتثير خيال المتلقّي، فيستحضره بوصفه مكانًا خاصًّا ومميّزًا يخترقه الإنسان ويتفاعل معه ويعيش فيه ليتحوّل المكان إلى عنصر فاعل، ولا يغدو محض زخرفة أو زينة. "فعندما يسمّي الروائي المكان ويصفه فهو لا يصوّر المكان الخارجيّ، وإنّما يصوّر المكان الروائيّ تصويرًا يثير خيال المتلقّي"، كما يقول الباحث السوري أحمد زياد محبكّ.
وفي إطار هذا المعنى يعدّ المكان التقليديّ بنية تحتيّة في حين أنّ المكان الروائي الخياليّ يحقّق بنية فوقيّة يغدو فيها فضاءً واسعًا يسهم في بناء الرواية ويشمل العلاقات بين الأمكنة والشخصيّات والحوادث، فإذا كانت نقطة انطلاق الروائيّ في التقاليد الواقعيّة هي الواقع، فإنّ نقطة الوصول ليست هي العودة إلى عالم الواقع، وإنّما خلق عالم مستقلّ له خصائصه الفنيّة التي تميّزه عن غيره، والكلام للباحثة المصرية سيزا قاسم.
ويعني كلّ ذلك أنّ المكان هو "المكان المتخيّل الذي تخلقه اللغة لأغراض النصّ الروائيّ ولحاجاته"[ix]، وأنّ النصّ الروائيّ يخلق عن طريق الكلمات مكانًا خياليًّا له مقوّماته الخاصّة[x]. وتسمية الأمكنة تحيلنا إليها في الواقع، وإن لم تكن في الرواية هي الأمكنة نفسها في الواقع.
وإذا كان المكان يحظى باهتمام كثير من الدارسين، كونه عنصرًا أساسيًّا من عناصر الرواية، وله "دلالة تمنح العمل الروائيّ دلالته"[xi]، فإنّ الزمن حظي باهتمام الفلاسفة والمفكّرين، وهو لا يزال يتصدّر الدراسات الأدبيّة على مستوى علاقته بالوجود والإنسان، وبأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وبنوعيه الموضوعيّ والنفسيّ، وبثنائيّاته المتناقضة المتعلّقة بالكون والحياة: كالوجود والعدم، والحياة والموت، والحضور والغياب، والإيمان والكفر.
وتستحضرنا الإشارة هنا، إلى الفيلسوف الألماني هيدغر (Heidegger) الذي ربط بين الزمان والوجود، فلا يفكّر الإنسان في أحدهما من دون أن يفكّر في الآخر. وإلى الفيلسوف الألماني كانط (Kant) الذي حدّد فكرة الزمان تحديدًا ذاتيًّا، فالزمن لا واقع له خارج الذات. وبالتالي فإنّ الزمان إدراكٌ أكثر نفسيًّا منه مكانيًّا، ونتيجة لذلك يمكن القول بوجود نوع من أفضليّة الزمان على المكان، وإلى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Jean Paul Ricœur) الذي طوّر فكرتي هيدجر وكانط، وأضفى عليهما بعدًا اجتماعيًّا؛ فكانط يُمثّل مرحلة التفكير بالوجود، وهيدجر يُمثّل مرحلة التفكير بالوجود والزمن، وريكور يُمثّل مرحلة التفكير بالوجود والسرد والزمن معًا.
ولقد استغلّ كتّاب الرواية نظرة هؤلاء الفلاسفة وسواهم للزمن في كتاباتهم، ليغدو الزمن نقطة محوريّة لتحليل وجوديّ للإنسان، فالأدب من وجهة النظر هذه، كان دائمًا وجوديًّا، لأنّه لم يعالج سوى نواحي الزمن التي اعتبرت ذات مغزى في حياة الإنسانيّة"[xii].
ويستخلص من كلّ ذلك أنّ المكان في الرواية هو عنصر من عناصرها الفنيّة يقوم في خيال المتلقّي وليس في العالم الخارجيّ وفاق ما يراه "بحراوي"، وأنّه في وصف المكان الروائيّ يبرز ما يسمّى بـــ "الفضاء" الذي يعني في مفهومه الفنّي مجموع الأمكنة التي تظهر على امتداد بنية الرواية مكوّنة بذلك فضاءها الواسع الشامل، كما يقول غالب هلسا. وأنّ للزمن مكانة مرموقة تسهم في تكوين جماليات السرد الروائيّ. فالزمن يتقاطع مع الفلسفة في العمل الإبداعيّ، وينشطر إلى أزمنة متعدّدة: زمن تاريخيّ وزمن نفسيّ وزمن فلسفيّ. وهو "ذو طبيعة متحرّكة يتحد بالوجود ثمّ العدم، بالحضور ثمّ الفناء، ينبىء الإنسان بموته وزواله وعبثية كلّ وجوده، كما يبشُره بالجديد الوافد، يحمل أمل الإنسان ويأسه، وجدّه وتفاهة شأنه، إنّه الكيان الموجود الفاني"[xiii]. المعيار إذًا، هو بناء الفضاء الروائيّ، فإذا نجح الروائيّ في هذا البناء منح المكان الحقيقيّ والمكان المبتدع خصوصيّة الخلق الفنّي، وحمّل الزمن الموضوعيّ والزمن النفسيّ صيرورة الحياة والتحوّل، وإلاّ، فلا، كما يقول الفيصل.
ويبقى أن ندخل من خلال هذه المنطلقات، إلى فضاء رواية رشيد الضعيف الموسومة بعنوان "تبليط البحر".
- ملخّص الرواية
بطل الرواية فارس منصور هاشم، وُلِد في بيروت في 14 كانون الأوّل سنة 1861 لأسرةٍ فقيرة. ونشأ إلى جانب جرجي زيدان الذي وُلد هو الآخر في التاريخ عينه. فكانا صديقين طموحين نهضويين يحلمان بتخلّص بلادهما من التخلّف والجهل والضعف والتعصّب والحروب، والسير بها قدما نحو التطوّر والإخاء والسلام.
والده منصور هاشم، كان صارمًا، حلمه أن يصير ابنه طبيبًا يفخر به وطنه، كما تفخر به أمه "زكية" التي كانت امرأة "دبّارة" تعمل في البيوت، وتدّخر ما تجنيه لتعليم ابنها فارس.
دخل فارس مدرسةً بدائيّة، ولم يشغله حبّ اللهو عن القراءة والمعرفة، ثمّ انتقل منها إلى مدرسة للرهبان الكاثوليك في عصر غزته الإرساليات الأجنبيّة والمبشّرون البروتستانت.
هاجر الوالد إلى أميركا للعمل، وراح يرسل أموالًا للعائلة مطمئنًا فارسًا إلى مستقبله، وقد استطاب له في غياب أبيه "طعم الفلتان المتحرّر من كلّ رقابة أبويّة، متنقلًا في أسواق بيروت وملاهيها ومقدّمًا على الملذات بلا تردّد. وكان له قصة مع "بورما" أحدثت انعطافًا في حياته وعمّقت رغبته بتعلّم الطبّ، وقناعته بضرورة بناء الدولة الراقية والحانية على مواطنيها. فدخل الجامعة الأميركيّة في بيروت لدراسة الطبّ، وكان يعلم حاجة اختصاصه الدائمة إلى جثث حتّى يتعلّم الطلاّب التشريح، ليتخرّجوا بشهادة تسمح لهم بممارسة الطبّ في أي مكان من السلطنة، لذا كان السعي إلى سرقة الجثث سرًّا من المقابر.
وفجّر خطابُ للدكتور "أدوني لويس" أزمة عُرفت آنذاك بأزمة دارون، أجبر بعده الدكتور لويس على تقديم استقالته، فأعلن الطلّاب الإضراب. اعتزم فارس الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركيّة بعد فصله من الجامعة ليتمّ بها دراسة الطبّ، متحديًّا الصعوبات لتحقيق ما عجز عنه في بلاده، وهناك تزوج من "ساوا" وهي فتاة صينية تعرّف عليها في كوبا حين شارك إلى جانب الثوّار الكوبييّن في حرب استقلال كوبا، ثمّ تخرّج طبيبًا ماهرًا من أرقى الجامعات في أميركا، وأصاب ثروةً من عيادته، إلى أن قرّر تصفية أملاكه والعودة إلى بيروت "برفقة زوجته "ساوا""، إلى "الفردوس المفقود" الذي يحنّ كثيرًا للعودة إلى أحضانه. وفي القطار بين باريس ومارسيليا أحسّ فارس بحملٍ ثقيل على صدره، ولم يتمكّن أحد من إسعافه، ففارق الحياة تاركًا زوجته الحامل وحدها. تحلّت ساوا بالشجاعة وقررت متابعة طريقها إلى بيروت ودفن زوجها في مسقط رأسه. وحين وصل النعش إلى بيروت وفي زحمة الفوضى على رصيف الميناء، سلب النعش ثلاثة من طلاب الطبّ في الجامعة الأميركيّة، وجرى تقطيع الجثة وبعثرة أشلائها بين الطلاّب لتنتهي رحلة فارس منصور هاشم حيث ابتدأت نهاية يتفطّر لها القلب في مشرحة الطب في الجامعة الأميركيّة.
(...)
***
* باحثة لبنانية - أستاذة دكتورة في كليّة التربية - الجامعة اللبنانيّة
** رشيد الضعيف: روائيّ وناقد وشاعر لبنانيّ. أستاذ مادّة الكتابة الإبداعيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت. من أعماله: "لا شي يفوق الوصف" (شعر)، و" ألواح" (رواية وشذرات من سيرته الذاتيّة).
مكتبة البحث
- المصادر:
- رشيد الضعيف، تبليط البحر، دار الريّس للكتب والنشر، بيروت 2011- المراجع العربيّة:
1. أحمد العزي الصغير، الفضاء وتشكيلاته السرديّة في الرواية العربيّة الحديثة
2. جان ريكاردو، القضايا الجديدة للرواية، بغداد، دار الشؤون الثقافيّة، ترجمة كامل عويد العامري، 2004.
3. جميل حمداوي، السيموطيقا والعنونة، الكويت، عالم الفكر، العدد الثالث، 1987.
4. جيسي ماتز، تطور الرواية الحديثة، ترجمة لطفية الدليمي، دار المدى، 2017.
5. حسن بحراوي، بنية الشكل الروائيّ، المركز الثقافيّ العربيّ، 1990.
6. حميد الحمداني، بنية النصّ السرديّ، بيروت، المركز الثقافيّ العربيّ، 1991.
7. حيدر جمعة العابدي، تحوّلات السرد من الواقع إلى الأسطورة في رواية "آدم سامي مور" لعلاء مشذوب، موقه كتابات الالكتروني kitabat.com
8. خبشي فاطمة زهرة ومحمد تحريشي، انزياح الزمن في رواية (أصابع لوليتا) لواسيني الأعرج (www.asip.cerort.dazrticle)
9. سامي سويدان، أبحاث في النص الروائيّ العربي، بيروت، دار الآداب، 2000.
10. سمر روحي الفيصل،.... الرواية العربيّة السوريّة، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1995.
11. سيزا قاسم، المكان ودلالاته، مجلّة البلاغة المقارنة، العدد 6، 1986.
12. صالح ولعة، إشكاليّة الزمن الروائيّ، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2002
13. صحيفة الدستور الإلكترونيّة، رشيد الضعيف وعمليّة الصدم والفضح المستمرّة، عمان، 2002.
14. عبد الحميد بن صدوقة، جماليات الزمن في رواية (فوضى الأشياء) للروائيّ رشيد بوجدرة www.benhedoga.com
15. عبد الرحمن يدوي، الزمان الوجوديّ، النهضة المصريّة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1957.
16. علي زيتون، فضاء ومدينة الله لحسن حميد.
17. مارسيل بروست، البحث عن الزمن المفقود، إصدارات غراسي وغاليمار، 1913-1927.
18. فوزي هادي الهنداوي، سيمياء العنوان في النصوص الإبداعيّة، مجلة الزمان الالكترونيّة azzaman.com
19. محمد توفيق الضوي، في فلسفة برادلي، مفهوم المكان والزمان في فلسفة الظاهرة والحقيقة، الاسكندريّة، منشأة المعارف (ب.ط) (ب.ت).
- المراجع الأجنبيّة:
- Sigmond Freud: Delive et revesdans la Gradiva de Jensen, Gallimard- “Idees”, 1949
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق